رضوى الأسود تعيد قراءة قصص الأقليات بشكل مغاير.
ليس هاجس الرواية المعاصرة تقديم حكايات محبوكة لمتعة القراء، بل هاجسها الأساسي هو تحريك السواكن وتقديم نص يتجاوز ما هو سطحي ويطرح المساءلات الحارقة للتاريخ والسياسة والمجتمعات بأغلبياتها وأقلياتها والصراعات وغيرها مما يحتاج إلى المعرفة لتفكيكه بعناية الجرّاح، كما فعلت الروائية رضوى الأسود في روايتها “بالأمس كنت ميتًا”.
لا شك أن الصلة الوثيقة بين الرواية والمجتمع وبين الرواية والشخصية كانت ومازالت ميدانا واسعا ومساحة عريضة للتجريب على الصعيد الروائي، هنا سوف تتباين مستويات التعبير عن فكرة النص وبعده السوسيولوجي، كل تلك الإشارات والعلامات هي التي تجعل من النص مرآة للواقع والشخصيات.
من هنا يتم التعبير عن ذلك البعد السوسيولوجي بمستويات عدة في النص الروائي لكنها مستويات مرتبطة بتلك القدرة على الاستبطان والاكتشاف المولّد للدهشة الذي ينتظره القارئ من الروائي.
وفي هذا الصدد تناقش الباحثة والناقدة آن أوكلي فكرة المعرفة بالتاريخ الاجتماعي وسيرة المجتمعات والشخصيات التي تعيش في الفضاء الروائي ومستوى الغنى والفقر المعرفي الذي ينتجه الكاتب، وهي تستشهد بالكاتبين تشارلز ديكنز وجين أوستن: فمن دون وصفهم لأخلاق وأعراف عصرهم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لأصبحت معرفتنا بتلك البيئة الاجتماعية فقيرة.
الأقليات والتاريخ
يستكشف الخيال الروائي نفس المواضيع في البحث السوسيولوجي ولكن بالمزيد من العمق والتحليل والزوايا المتعددة للاكتشاف، وتستذكر عددا من الكتّاب مثل كليمنتينا بلاك، ومارجريت هاركنيس، وشارلوت بيركينزجيلمان.
هذه المقدمة أجدها ضرورية لغرض الغوص في عالم رضوى الأسود الروائي، فهي معنية بجميع تلك المعطيات وذاهبة إلى أبعد من ذلك باتجاه الأقليات الغائرة في ثنايا المجتمعات الأخرى وخاصة الأكراد، ثم تذهب باتجاه الأرمن حيث راحت تحلل وتدقق في ثنايا مجتمعاتهم وحياتهم اليومية ضمن نسيج روائي متميز.
ها نحن معها وعلى امتداد روايتها المكثفة بعنوان “بالأمس كنت ميتاً” نفتتح الرحلة مع ليلى، حياتها وشخصيتها التي امتزجت بعالم التصوّف والماورائيات المرتبط بالعائلة، وصولا إلى صور متلاحقة ترتبط بالأسرة وبحياتها في الأزمنة المتأخرة لمجيء ثورة يوليو والمد الوهابي، وكل ذلك ينعكس على المكان الذي يتم رصده من وجهة نظر ليلى بعين ثاقبة.
وفي موازاة ذلك، وفي التفاتة ذكية إلى بيئات أخرى نائية لكي تمهد لانتقالنا الزماني والمكاني والاجتماعي، تشير إلى التاريخ العثماني والشركسي، ما بين السلطان العثماني مراد الأول والشركسي طومان باي، وها هما كنقيضين يحضران كشارعين تمر بهما الشخصية.
ولكي تمضي بنا مع أهواء الشخصيات تمنح شخصية لوسي أبعادا أكثر خصوصية وبعدا حسيّا لاسيما في علاقتها مع مالك الذي صارت تقرأه بوجوده الكامن المعزز، عبق روحه وعطره ورغبته فيها، محطات اللذة الصامتة والرغبة واندفاع الذات، تهويمات أنثوية رقيقة وذاتية سرعان ما تفتح لنا مشهدا مختلفا كليا بانتقالنا إلى وان التركية النائية والمطبعة وصاحبها الأرمني المسيحي الذي يواجه مصيره المباشر مع السلطان العثماني.
ويتم التأسيس للواقع المحيط والبيئة التي تؤطر الشخصيات بعناية ابتداء من الطراز المعماري العثماني – الأرمني المختلط، بواسطة المعماريين الأرمن، ثم الانتقال إلى العلاقة مع فرهد الكردي المتدين. هذا المثلث السوسيولوجي، التركي – الأرمني – الكردي هو الذي سوف تنسج عليه أنساق الرواية والمزيد من حبكاتها التاريخية والتحولات الأهم فيها.
أما من الجهة الأخرى فإن الثنائي الكردي/ الأرمني هو الذي يجري التأسيس عليه لاحقا مما تنغمس فيه الرواية وتتغلغل في ثنايا العرقيتين، لاسيما وأن كلا من عاملي التاريخ والجغرافيا يلعبان دوريهما في حياة العرقيتين وكونهما تعرضتا للعواصف نفسها.
ويدخل عامل التاريخ بقوة في ثنايا العمل بالعودة إلى ما قبل 300 عام أو أكثر في تتبع مسارات شخصيات أرمنية وكردية، وهو ما يلفت النظر لجهة التغلغل في الحياة اليومية التفصيلية للشخصيات ابتداء من آرام الأرمني المولود في عام 1855 وصديقه الكردي سالار، وها هما يلتقيان في عيد النوروز حيث كانت كلتا العرقيتين زرادشتيتين قبل أن تدخلا المسيحية والإسلام.
الحياة الزراعية البسيطة هي التي سوف تكون الفضاء العام والشامل للشخصيات وهي تعيش يومياتها، وخاصة لجهة سالار الكردي الذي من خلاله وعبر وجهة نظره سوف نكتشف المزيد من حياة الأكراد والأرمن على حد السواء، بما في ذلك التجارب الشخصية والحب ومعاشرة المرأة ومواسم الحصاد وغيرها.
صراعات وتنقلات
إذا تقدمنا خطوة إلى الأمام فسوف نجد أن النصف الثاني من ذلك المجتمع، وهو النصف الأنثوي، هو بنفس حالة الاتصال والتفاعل بين ما هو أرمني وكردي، وذلك من خلال شخصيات الفتيات الثلاث روشنا الكردية وصديقتيها الأرمنيتين وهن اللاتي يقدمن المتعة لشباب هم خليط بين الأرمن والأكراد.
“بعد هروب روشنا، كففت عن شراء الجسد”، هذا ما يقوله سالار الذي كانت مشاعره سببا في هرب الفتاة أو تركها لصديقيها الأرمنيين، ليعود إلى سيرته الأولى ويومياته، وهي يوميات فضاؤها الجغرافي هو أمد ولا يتعداها وجود الأرمن والأكراد والسريان في بعض الأحيان.
رضوى الأسود تقدم في روايتها حصيلة تعبيرية روائية متداخلة تتفوق بها في الانتقال بين الأزمنة والمجتمعات والشخصيات
على أن هذه الحياة المسالمة ما تلبث أن تولد من داخلها حبكات أخرى تقلب الواقع رأسا على عقب، وذلك من خلال الصراعات العرقية وخاصة بين الأتراك والأرمن ودخول الأكراد طرفا بشكل ما، ولهذا فإن مجازر الأرمن في آمد هي التي تبقى عالقة في الذاكرة.
” تتدحرج كرة النار الملتهبة لتحيل كل مكان تمر عليه إلى رماد، وتصل إلى ولاية آمد، فيهاجم المسلمون محال المسيحيين وبتخطيط من السلطان وحاشيته يتم تلفيق تهم بالجملة للأرمن، وليتخلص الباب العالي من أرمن آمد، كما تخلص قبلهم من أرمن بدليس”.
على هذه الخلفية من الصراعات العرقية يتم التأسيس لما هو آت من مجتمعات مأزومة تتآكل مقدراتها في ظل صراعات طاحنة لا تكاد تنتهي، لكنها سوف تتخذ مسارات عدة من خلال مجتمعات الشتات وتبعثر ضحايا العرقيات المأزومة وخاصة الأرمن، وها هم مشردون ويصلون إلى مصر طلبا لملاذ آمن.
“رست السفينة على شاطئ بورسعيد، فوجدا نفسيهما مع جموع من الأرمن ممن نجحوا في الفرار على متون السفن والمراكب التي كانت تتطوع لإنقاذهم ونقلهم من أرض الجحيم. كانت السلطات المصرية على علم بتلك الوفود المتشرذمة، الموتى الأحياء، يستقبلونهم بشفقة لو صادف أن كانوا مثلهم من ‘رعايا الدولة العثمانية’، أو يستقبلونهم بصلف لو حدث أن كانوا ينتمون إلى أصول عثمانية”.
بعد هذا الإطار السوسيولوجي/ التاريخي ما نلبث أن نعود إلى يوميات موازية تعود إلى ليلى ولوسي في عام 2000، تلك الأصداء والامتدادات الماضوية سوف تجد لها أصداء في وعي ولاوعي الشخصيات في الأزمنة المعاصرة، لاسيما مع افتتان مالك بالفتاتين وكل منهما لها عالمها الخاص، لكن الرواية لا تترك الشخصيات فرادى إذ تظهر في الأحداث وهي متقاربة بود فيما بينها، وهو ما يكرسه سيل المراسلات بين مالك والفتاتين لاسيما وأن مالك جواب آفاق يتنقل بين البلدان ويمطر الفتاتين بالخطابات.
مشاهد المستشفى والنهايات التراجيدية المرتبطة بقضية الأرمن تحضر بقوة وتعيدنا إلى ذات السلسلة الاجتماعية/ التاريخية التي نشأ عليها السرد، ولكن هذه المرة من خلال شخصية لوسي التي تسدل الستار الأخير على حياتها ومأساة الأرمن.
تقدّم رضوى الأسود في هذه الرواية حصيلة تعبيرية روائية متداخلة تتفوق بها في الانتقال بين الأزمنة والمجتمعات والشخصيات، وتضفي على عالمها الروائي متانة وحسّاً جماليّاً تعمقه باقترابها من شخصياتها وتماهيها معها لتنقلنا إلى أزمنة وتواريخ فيها الكثير من نبض المعاناة والتحولات في قالب روائي متميز.
طاهر علوان - كاتب عراقي مقيم في لندن / العرب اللندنية