من المرتقب أن تشهد تونس، بحسب تصريح رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، خلال سبتمبر/ أيلول أو أكتوبر/ تشرين الأول 2024، تنظيم الانتخابات الرئاسية الثانية عشرة، والثالثة بعد الثورة، ومن المتوقع أن يُنتخب فيها رئيس الجمهورية الثامن في تاريخ البلاد. ويتبيّن للمتابع لتطوّرات المشهد السياسي في تونس احتدام الصراع، أخيراً، على الترشّح لرئاسة البلد، رغم أنّ الحملة الانتخابية القانونية لم تبدأ بعد، وكلٌّ يدّعي أنّه يملك إكسير الخلاص وسفينة نجاة تونس من أزماتها المتعدّدة. ويُمكن التمييز بين ثلاثة تيّارات تتنافس على الاستحقاق الرئاسي، هي تيّار العهد القديم، ومنظومة 25 يوليو (2021)، والتيّار المعارض للنظام الحاكم.
ظلّ تيّار الحنين إلى النظام القديم يراوح بيْن الكمون والظهور زمن الثورة، واستثمر حالة الانتقال الديمقراطي، وازدهار الحرّيات خلال العشرية المنقضية. فأعاد ترتيب صفوفه، واستجمع طيفاً مُعتَبَراً من أنصاره تحت يافطة أحزاب سليلة ما يُعرف بـ"العائلة الدستورية"، مثل نداء تونس، والحزب الدستوري الحر، وحزب المبادرة، وغيرها، وروّج سردية الرئيس المُخلّص، واستعادة سلطوية الدولة في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وعبّر كثيرون في ذلك التيّار عن امتعاضهم من النظام البرلماني، ومن مشروع التحوّل الديمقراطي، والتفريق بين السلطات، وشوقهم إلى مركزة السلطة بيد رئيس الجمهورية.
وقد أدّى الصراع على الزعامة، وتحوّلات المشهد السياسي في تونس إلى تشتت معظم تلك الأحزاب أو انقراضها، ولم يبقَ منها سوى الحزب الدستوري الحر، وبعض الوجوه الدستورية التاريخية، التي عبّرت عن نيتها الترشّح لرئاسيات 2024، ومنها رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي، وأحد رموز التجمّع الدستوري الديمقراطي المنحل، أحد وزراء زين العابدين بن علي منذر الزنايدي. والجامع بيْن هذين المرشّحيْن أنّ كلاً منهما انتمى إلى منظومة الحكم الشمولية القديمة، وكلاهما عمل ضمنها ودافع عنها، ولم يعتذر للتونسيين عن انخراطه في دعم الدكتاتور المخلوع، وكلاهما لم يقدّم مراجعة ذاتية نقدية لمُنجزه السياسي قبْل الثورة وبعدها.
فشلت غبير موسي مراراً في تحشيد الشارع ضدّ الرئيس سعيّد، الذي نجح نسبيّاً في استقطاب عدد من أنصارها باستجابته لجلّ مطالبهم
والثابت أنّ عبير موسي تعتبر الثورة مؤامرة دبّرتها عقول خارجية، ونفّذتها أياد داخلية، وقد لعبت، بحسب مراقبين، دوراً محورياً في تهشيم تجربة الانتقال الديمقراطي وإرباك البرلمان المنتخب في عام 2019 وتعطيل أشغاله، وإشاعة الهرج والمرج تحت قبّته على نحو ساهم في تنفير الناس من السياسة عموماً، ومن الديمقراطية التمثيلية خصوصاً. ويذهب متابعون للشأن التونسي إلى أنّها اسْتَعْدَتْ جلّ الفرقاء السياسيين، ونعتتهم بالخيانة، وطعنت في وطنيتهم، وادّعت امتلاك الحقيقة المُطلَقة، وأقصت الآخر السياسي عموماً، والإسلاميين خصوصاً الذين توعّدتهم بالمحاكمات والمعتقلات لانخراطهم في "الربيع العربي". ومع إسقاط التجربة الديمقراطية الوليدة، وصعود حركة 25 يوليو بقيادة قيس سعيّد، ظنّ كثيرون أنّ موسي ستلتحق وحزبها بركب الموالين للرئيس لتحقيق جُلّ مطالبها، من قبيل إلغاء الدستور، وحلّ البرلمان، وإزاحة الإسلاميين من الحكم، وإقامة نظام رئاسي مطلق. لكنّها لم تفعل، لأنّها كانت وما انفكّت تطمح إلى أن تكون رئيسة تونس الأولى، وهو طموح مشروع، غير أنّ بلوغه أقرب إلى المُحال منه إلى الإمكان.
ذلك أنّ قاعدتها الشعبية محدودة، ومردّ ذلك نهجها الإقصائي، وخطابها الدوغمائي الأحادي، وميل حزبها، حتّى في معارضته النظام، إلى البحث عن خلاص فردي في غير تنسيق مع بقية الأحزاب المُعارِضَة. وهو ما زاد في عزلة الحزب ورئيسته. وقد فشلت موسي مراراً في تحشيد الشارع ضدّ الرئيس سعيّد، الذي نجح نسبيّاً في استقطاب عدد من أنصارها باستجابته لجلّ مطالبهم. كما أنّ ترشّح منذر الزنايدي إلى الرئاسيات سيستنزف رصيدها الانتخابي لا محالة. تلك المُعطيات كلّها ستجعل وصول موسي إلى قصر قرطاج أمراً بعيداً، سواء كانت داخل السجن أو خارجه، بحسب مراقبين.
مع أهمّية الخطاب الواعد ودوره في عطف القلوب للزنايدي، فإنّه لا يقدّم بدائل عملية، ولا حلولاً تفصيلية لأزمات البلاد المُركّبة، المُتعدّدة
أمّا منذر الزنايدي، فخرّيج المدرسة القومية للإدارة في فرنسا، وقد تقلّد عدّة مناصب وزارية (النقل، التجارة، السياحة، الصحة)، في عهد الدكتاتور زين العابدين بن علي، وكان ضمن تشكيلة آخر حكومة أطاحتها الثورة، وقد قدّم ترشّحه للسباق الرئاسي عام 2024 من باريس، ويتميّز بخبرته الواسعة ضمن منظومة الحكم والتسيير الإداري، وقدّم بظهوره عبر شبكات التواصل الاجتماعي خطاباً واعداً للتونسيين، انبنى على ثلاث استراتيجيات بارزة.
الأولى، نقد سياسات سعيّد ومراسيمه من خلال نعتها بالشعبوية، والأحادية، والتخبط، وعدم النجاعة.
والثانية، الاستثمار في قطيعة سعيّد مع المعارضين، والانتصار لهم والتأكيد على ضرورة إطلاق سراح السجناء السياسيين، ووقف التتبّعات القضائية ضدّهم. الثالثة، وعد المواطنين بغد أفضل قوامه تكريس الحرّيات العامة والخاصة، وتحسين أوضاعهم المعيشية. ويروم الزنايدي من ذلك توسيع كتلته الانتخابية من خلال استقطاب الدساترة وأشياع العهد القديم، واستقراب أنصار الأحزاب المُعارِضَة، والمُحبَطين من مخرجات مسار 25 يوليو. ومع أهمّية الخطاب الواعد ودوره في عطف القلوب للرجل، فإنّه لا يقدّم بدائل عملية، ولا حلولاً تفصيلية لأزمات البلاد المُركّبة، المُتعدّدة. كما أنّ تقديم الزنايدي ترشّحه من الخارج، جعله عرضةً لشبهة الاستقواء بالخارج. يضاف إلى ذلك أنّ رهانه على جمهور المعارضة قد يصيب وقد يخيب. ذلك أنّ جلّ الأحزاب المعارضة لم تُزكّه صراحة. كما أنّ احتمال تسوية رضائية بين قيس سعيّد ومعارضيه ستقلّص من شعبية الزنايدي وحظوظه في الفوز بكرسي الرئاسة لا محالة.
مع أنّ قيس سعيّد يتصدّر نيات التصويت، فإنّ تجربة الحكم استنزفت شعبية الرجل، بحسب مراقبين، بسبب الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية لمسار 25 يوليو
ويراهن تيّار 25 يوليو على تجديد ولاية سعيّد في منصب رئيس الجمهورية. ومعلوم أنّ الرجل لم يعلن ترشّحه للسباق الرئاسي بعد، لكن سبق أن عبّر عن "عدم استعداده لأن يسلّم الوطن لمن لا وطنية له"، وقال، أخيراً، ردّاً على سؤال حول إمكانية ترشّحه مجدداً للرئاسة:
"المسألة ليست شهوة أو طموحاً، بل هي قضية بقاء أو فناء"، وفي ذلك إشارة إلى أنّ استمرار مشروعه السياسي مرتبط بفوزه بالرئاسيات من عدمه، ويذهب مراقبون إلى أنّ سعيّد بدأ مبكّراً حملة انتخابية غير معلنة للظفر ثانية بكرسي الرئاسة، من خلال تكثيفه نشاطه الميداني، وقيامه بزيارات مفاجئة لأحياء شعبية ومناطق طرفية، ومؤسّسات ومصانع حكومية ومعاينته مواضع الخلل فيها، داعياً إلى حتمية إصلاحها، وكذا من خلال إطلاقه مشاريع تفعيل الصلح الجزائي، واستعادة الأموال المنهوبة، وإحداث شركات أهلية، ووعده بإنشاء أقطاب خدمية كبرى، مثل المدينة الطبية بالقيروان. ومع أهمية هذه المشاريع، فإنّ مسار تحقيقها متعثّر.
ويركّز سعيّد في خطابه التحشيدي على استحضار سردية التحرير الوطني من لوبيات الداخل والخارج، ومسألة السيادة الوطنية، ومكافحة الفساد، والتشنيع بمعارضيه، وتجذير القطيعة بين الجموع المُهمَّشة والنخب الفاسدة في نظره.
ويجد هذا الخطاب هوى لدى طيْف معتبر من التونسيين، لكنّه لا يقي كثيرين عواقب الفقر والبطالة. ومع أنّ قيس سعيّد يتصدّر نيات التصويت، فإنّ تجربة الحكم استنزفت شعبية الرجل، بحسب مراقبين، بسبب الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية لمسار 25 يوليو، الذي لم يُحسّن المقدرة الشرائية للناس وأوضاعهم المعيشية، وبسبب تراجع منسوب الحرّيات العامة والخاصّة، واعتقال عدد من رموز الأحزاب السياسية التي انتصرت لسعيّد في الدور الثاني لرئاسيات 2019 (حركة النهضة، وائتلاف الكرامة، والتيار الديمقراطي).
ويحظى سعيّد بدعم القوى الصلبة، وطيف من الإداريين والمحافظين، وأحزاب قومية ويسارية صغيرة، ولا تكفي هذه القاعدة الانتخابية لضمان فوزه بأغلبية مريحة في رئاسيات 2024. لذلك يحتاج، بحسب مراقبين، لتحقيق انفراج سياسي، ومدّ جسور التواصل مع معارضيه، واتخاذ تدابير فورية لتحسين معاش الناس، ليضمن الفوز بنسبة معتبرة من أصوات الناخبين.
يبدو أنّ الهاجس الموجّه لرئاسيات 2024 سيكون البحث عن شخصية تحقّق الانفراج السياسي والنهوض الاقتصادي
أمّا تيّار المعارضة الوازن، فيتكوّن أساساً من جبهة الخلاص الوطني، وكتلة الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية، وائتلاف صمود اليساري، ويلتقي هؤلاء عند اعتبار حركة 25 يوليو انزياحاً عن الشرعية الدستورية، وانقلاباً على مخرجات الثورة، ويركّزون في خطابهم على ضرورة استعادة الديمقراطية، ونقد سياسات سعيّد الأحادية، ورفض تهميشه الأحزاب ومكوّنات المجتمع المدني. لكنّهم لا يقدّمون بدائل واضحة لحلّ مشاكل تونس الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة. وتشق المعارضة خلافات بشأن تأييد المشاركة في الرئاسيات أو مقاطعتها، وتعتريها شكوك بشأن شفافية الاستحقاق الانتخابي. ومع أنّ بعض الوجوه المعارضة (لطفي المرايحي، وعصام الشابي، وألفة الحامدي)، أعلنت ترشّحها للرئاسيات، فإنّها لمْ تلقَ تزكية صريحة من الكتل الحزبية المعارضة. كما أنّ حركة النهضة، التي تعتبر الحزب المعارض الأبرز، ولها حاضنة شعبية معتبرة، لن تقدّم مرشّحاً من داخلها للرئاسيات. لذلك، من المتوقّع أن يتنافس مترشّحون من خارجها على اجتذاب خزّانها الانتخابي الوازن. ويرجّح مراقبون أنّ احتمال اختيار المعارضة مرشَّحاً توافقياً سيشكّل حرجاً للمنظومة الحاكمة. لكنّ تحقيق ذلك الاحتمال يبدو بعيداً، لما يعتري المعارضة التونسية من خلافات مصلحية وأيديولوجية قديمة.
ختاماً، لقد كان البحث عن مرشّح توافقي العامل المُحدّد لاختيار الباجي قائد السبسي رئيساً لتونس في عام 2014، والبحث عن شخصية نزيهة معياراً في انتخاب سعيّد سنة 2019، ويبدو أنّ الهاجس الموجّه لرئاسيات 2024 سيكون البحث عن شخصية تحقّق الانفراج السياسي والنهوض الاقتصادي. وعلى ذلك فليتنافس المتنافسون.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال