فرّ ما لا يقلّ عن 300 ألف شخص من العاصمة الخرطوم إلى الولايات الإقليمية بحثاً عن الأمن، وفقاً لما أحصته منظمات مجتمع مدني في البلاد، وأوى معظم الفارين إلى منازل أقاربهم ومعارفهم، وليس إلى مخيمات نزوح.
مع احتدام لهيب القتال الضاري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حزمت عوضية كوكو حقيبتها وغادرت منزلها في العاصمة الخرطوم بحثاً عن ملاذ آمن، وبعد رحلة شاقة وصلت إلى منطقة "حنتوب" بولاية الجزيرة وسط البلاد وأوت الى إحدى العائلات هناك، تاركة خلفها ما جمعته خلال سنوات عمرها، وذلك هرباً من جحيم الحرب.
وبعد عناء الفرار وجدت كوكو نفسها أمام أوضاع قاسية في ملجئها، تجلّت في نقص كبير في الطعام وانعدام مجمل مقوّمات العيش، إذ لم تتسع يد العائلة التي استضافتها برفقة نازحين آخرين لتلبية احتياجاتهم المعيشية نظراً للحالة الاقتصادية السيئة التي يواجهها غالبية المواطنين السودانيين في المناطق الملتهبة والآمنة على حد سواء.
وتروي لـلميادين نت مأساة حقيقية تعيشها مع مئات النازحين في تلك المنطقة، في ظل غياب تامّ للمساعدات الإنسانية، مما جعلهم في واقع مظلم يهدّدهم فيه شبح الجوع. وتقول: "نحن 32 امرأة و40 طفلاً نقيم في منزل واحد في منطقة حنتوب شرق مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة في وضع قاسٍ، إذ يعتمد هؤلاء الصغار على رحمة جرعات محدودة من الألبان من دون تناول أي وجبات إضافية، وهذا يهدّد حياتهم بشكل كبير".
صدمة المأوى
تلك الأوضاع المأساوية تنطبق على محمد عثمان الذي نزح إلى مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر شرقي السودان في الأسبوع الثاني من اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، وأقام في منزل أحد أقاربه بعد أن فشل في الحصول على مسكن خاص به نسبة للغلاء الفاحش في أسعار إيجارات العقارات السكنية الجاهزة.
ويقول عثمان في حديثه لـلميادين نت: "لقد أنفقت كل ما لدي من أموال على تذاكر السفر من الخرطوم إلى بورتسودان، والتي وصلت قيمتها للشخص الواحد نحو 300 دولار، علماً أنّ أسرتي تضم 5 أفراد وهو ما اضطرني لدفع ما يقارب 1500 دولار من أجل ترحيلهم، الأمر الذي أدخلني في ضائقة مالية حادة".
ويضيف: "نواجه صعوبات كبيرة في العيش، وشكّلنا ضغطاً على أقاربنا الذين نقيم معهم في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والغلاء الطاحن الذي تشهده مجمل أسعار المواد الغذائية والمياه. يجب أن تتوقّف هذه الحرب فوراً حتى نعود إلى منازلنا ونستأنف أعمالنا وتتوقّف هذه المعاناة".
وإن كان محمد عثمان محظوظاً بأقربائه الذين استضافوه في منزلهم ببورتسودان، فإن عاطف السيد لم يجد غير بناية إحدى المدارس الإعدادية في مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان، فأوى إليها مع زوجته وأبنائه الثلاثة، وذلك بعد أن اصطدم بأسعار عالية لإيجار المنازل والتي تصل إلى 600 ألف جنيه سوداني، أي ما يعادل نحو ألف دولار.
وقال عاطف لـلميادين نت: "نواجه مصيراً مظلماً للغاية، فحياتنا الآن تحت رحمة غذاء جاهز يأتينا به أصحاب المنازل المجاورة، فهم أناس أصيلون ويتحلّون بكرم سوداني باذخ، ولكن الحالة الاقتصادية معلومة ويعاني منها كل السودانيين المستقرين والنازحين. نشعر بأسى شديد ونأمل أن تنجلي هذه المحنة في أسرع وقت".
لعنة النزوح
وعلى الرغم من أنّ عوضية كوكو تجسّد واقع آلاف الأشخاص الذين فرّوا من العاصمة السودانية الخرطوم إلى الولايات الإقليمية بعد أن اشتدّ عليهم جحيم الاشتباكات العسكرية الدامية والمحتدمة منذ منتصف شهر نيسان/أبريل الماضي، إلا أنّ ثمة اختلافاً في حالتها عن الآخرين، كونها تجرّعت مرارة النزوح مرتين، إذ دفعتها نيران القتال إلى الهجرة مع عائلتها من منطقة تقلي العباسية بولاية جنوب كردفان إلى الخرطوم في ثمانينيات القرن الماضي، وعملت في مهنة بيع الشاي لمساعدة أسرتها الصغيرة وتربية أبنائها.
ولها قصة كفاح بارزة في المشهد السوداني، حيث قادت حملة للدفاع عن النساء بائعات الشاي والأطعمة في أسواق وأرصفة العاصمة الخرطوم من ملاحقات السلطات المحلية، وقامت بتأسيس جمعية تعاونية للنساء العاملات في المهن الهامشية، ومن ثم بتأسيس اتحاد لبائعات الشاي أسندت إليها رئاسته.
وكانت قد تعرّضت للسجن برفقة نساء أخريات بسبب تعثّرهن في سداد قرض مصرفي محدود (التمويل الأصغر) كما يسمّونه في السودان، حيث كانت تنوي إقامة مشروع إنتاجي صغير لزيادة دخلها لمواجهة احتجاجاتها الحياتية، وتمكّنت من الخروج من هذه المحنة وهي أكثر قوة لتستأنف رحلة كفاحها من جديد.
لكنّ مشوار الكفاح الطويل في سبيل التكسّب الحلال والدفاع عن الآخرين الذي قادته عوضية كوكو منذ فرارها مع عائلتها إلى العاصمة في ثمانينيات القرن الماضي، يصطدم بعقبة الحرب الضارية لتتشبّث بها محنة النزوح مجدداً لتعيدها 4 عقود إلى الوراء، فبعد أن كانت تساعد غيرها طيلة السنوات الماضية باتت في أوج الحاجة لأن يحتويها ويساعدها الآخرون.
وتقول عوضية: "نحتاج إلى عون عاجل، فالوضع لا يحتمل على الأقل بالنسبة للأطفال، ألتمس من كل شخص يعرفني وكل الجهات الخيرية المسارعة بتقديم المساعدات الممكنة لهؤلاء النازحين، فعندما يتعلّق الأمر بالأكل والشرب لا يحتمل التأخير لأنه مرتبط بشكل وثيق بالحياة والتي باتت مهدّدة الآن".
غياب المساعدات
وفرّ ما لا يقلّ عن 300 ألف شخص من العاصمة الخرطوم إلى الولايات الإقليمية بحثاً عن الأمن، وفقاً لما أحصته منظمات مجتمع مدني في البلاد، وأوى معظم الفارين إلى منازل أقاربهم ومعارفهم، وليس إلى مخيمات نزوح، كما ينبغي وهو ما سيحرمهم من المساعدات الإنسانية المحلية والدولية.
وبعد 17 يوماً من القتال الضاري في الخرطوم، لم يتلق السودانيين أي مساعدات إنسانية من الخارج الذي بات مشغولاً بإجلاء رعاياه من هذا البلد الملتهب، هذا باستثناء شحنة مساعدات طبية وصلت ميناء بورتسودان شرقيّ البلاد مطلع هذا الأسبوع، وهي مقدّمة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهي في طريقها لتضميد جزء من جراحات النظام الصحي في السودان، والذي يواجه بدوره شبح الانهيار في إثر نقص حاد في الأدوية والكوادر العاملة وخروج 72 في المئة من مستشفيات العاصمة عن الخدمة نتيجة للمواجهات العسكرية.
الواقع المليء بالأزمات زاد من حدة الخوف لدى عوضية كوكو خاصة على زميلاتها في المهنة. وتقول لـلميادين نت: "بائعات الشاي يدفعن الفاتورة الأعلى للحرب الجارية الآن، فهنّ الأكثر تضرراً لأنّ غالبيتهن يُعلِنَ أيتاماً بعد وفاة أرباب منازلهن، فكن يعملن بزرق اليوم لمساعدة أفراد عائلتهن، في الوقت الراهن تقطّعت بهن السبل وصرن نازحات يواجهن مآسي العيش".
وتأمل عوضية في أن تتوقّف الحرب الجارية بين الجيش وقوات الدعم السريع في القريب العاجل وتعود التي منزلها في العاصمة الخرطوم الذي تركته بكامل عتاده ومقتنياته التي جمعتها خلال السنوات الماضية من عملها المتواضع، ولتستأنف مشوار كفاحها في الكسب الحلال والدفاع عن النساء العاملات في مجال بيع الشاي والأطعمة.
مرتضى أحمد - الميادين نت
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال