بعد وصول حكومة نتنياهو السادسة بمكوناتها اليمينية الصهيونية الدينية المتطرفة إلى سدة الحكم، وتنفيذها لتوجهاتها وتصريحاتها بسياسات وقرارات وتشريعات لا يمكن وصفها إلا بأنها مرحلة شن حرب دموية ضد الفلسطينيين لتصفية وجودهم وقضيتهم، بات على الفلسطينيين إعادة النظر في علاقتهم وسياستهم تجاه حكومة الاحتلال، وتجاه أنفسهم.
تشهد الأراضي الفلسطينية اليوم صراحةً حرباً يشنها الاحتلال ضد الفلسطينيين، إذ يكاد لا يمر أسبوع واحد إلا وتشن قوات الاحتلال غارات على المناطق الفلسطينية المختلفة لارتكاب جريمة جديدة، كان أحدثها قتل ستة شبان فلسطينيين في مدينة جنين قبل يومين. ويعاني الفلسطينيون بشكل شبه يومي من اعتداءات المستوطنين الدموية، وتذكّر جريمة حوارة الأخيرة بمدى العنف والإجرام الذي وصل إليه مستوى تلك الاعتداءات. هذا الواقع الذي وصل إليه الفلسطينيون اليوم، والذي وصل حد النفي لوجودهم وتهديد صريح لبقائهم، يأتي على شكل حرب منظمة تضعهم بين فكَّي كماشة الاحتلال، فك رسمي بفعل قوات الجيش، والآخر غير رسمي بفعل مستوطنيه.
ويبدو الخطر الحقيقي اليوم في أن حكومة نتنياهو الحالية لا تتردد في الكشف صراحة عن نواياها تجاه الفلسطينيين، وفي العمل على تنفيذ تلك النوايا، حيث بدا تنفيذ ذلك واضحاً من خلال تعينات هذه الحكومة ومهامها والتشريعات التي يسعى الكنيست الحالي لسنها ضد الفلسطينيين، وممارساتها الفعلية على الأرض.
رغم أن تفاصيل ما وصل إليه الحال الفلسطيني ليس جديداً، وكثير من المنظرين تحدثوا عنه من قبل، إلا أن حكومة نتنياهو الحالية جاءت لحسم هذا الصراع الطويل، إذ لا سبيل لتفسير ممارساتها الحالية بشكل آخر. ما تضعه حكومة نتنياهو اليوم أمام أعين الفلسطينيين لم يأتِ فجأة، بل جاء تدريجياً، عكسته تطور سياسات الحكومات الإسرائيلية وتوجهات الشارع في إسرائيل. فالحكومات الإسرائيلية المختلفة، سواء كانت يسارية أم يمينية، لم تتخلَّ عن توجيهات الفكر الصهيوني، الذي وُضع في الأساس كي يجتثَّ الوجود الفلسطيني.
اذاً، الاستيلاء على الأرض الفلسطينية وقمع الوجود الفلسطيني بالقوة هو أساس عمل حكومات إسرائيل، وهو ما نراه اليوم جلياً في سياسة حكومة نتنياهو الحالية تجاه الفلسطينيين.
بعد هزيمة إسرائيل عام 1973، صعدت حركة غوش إيمونيم الاستيطانية اليمينية المتطرفة عام 1974 لترسيخ الاستيطان في الضفة الغربية، وحملت هدفين رئيسيين؛ أولهما تمثلَ بعدم السماح للحكومات الإسرائيلية المختلفة بتسليم أي أراض للفلسطينيين، في ظل تصاعد الحديث عن مبادرات سلام، والهدف الثاني ركز على زيادة رقعة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك بالاستيلاء بالقوة على أراضي الفلسطينيين. اقترن ظهور هذه الحركة بثلاث قضايا، أولها التأكيد والترويج للفكر الصهيوني الديني، واستخدام العنف لتحقيق الأهداف، وعدم حمل الصفة الرسمية، أي لا تمثل أفعالها الدولة، ليترك للحكومات هامشاً للمناورة على المستوى الدولي، رغم أن هذه الحركة لاقت دعم الحكومات اليسارية واليمينية في حينه، أي أن الحكومات اليسارية تماشت مع الحركة اليمينية المتطرفة في سبيل تحقيق الهدف الصهيوني في فلسطين. رغم اندثار الحركة بعد ذلك، ظلت مبادئها وسياساتها سارية في إسرائيل. وما نراه اليوم من رواج لمكانة الأحزاب الصهيونية الدينية من جهة وانتشار للعنف والإفساد الذي يبثه "فتية التلال" في أرجاء الضفة الغربية، ما هو إلا امتداد لما وضعته حركة غوش ايمونيم في الماضي.
بعد توقيع اتفاق أوسلو من قبل حكومة يسارية في إسرائيل، اغتال يميني متطرف إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل في حينه الذي وقّع الاتفاق، ورغم أن الاستيطان لم يتوقف تماماً في ذلك الوقت، وأعلن عن الاكتفاء بتوسيع المستوطنات من داخلها فقط، شجع اليمين المتطرف في إسرائيل الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين لتشييد بؤر استيطانية تضمن استمرار التوسع الاستيطاني خارج حدود المستوطنات. دعا أرئيل شارون صراحة عام 1998، الذي كان يشغل منصباً رسمياً في حينه، الإسرائيليين للاستيلاء على التلال بالقوة لبناء تلك البؤر.
صاحَب ذلك التوجه ظهورُ فتية التلال، الذين استخدموا العنف للاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، وتصاعَد عنفُهم وتطور، وبات تحت عنوان "تدفيع الثمن" في العقد التالي، وبات عنفهم اليوم عنواناً عريضاً تتناقله وكالات الأنباء بشكل يومي. يتلقى فتية التلال والمستوطنون الذين يعتدون على الفلسطينيين ويزداد عددهم وعتادهم بشكل ملحوظ، الدعم من حكومات الاحتلال بمختلف أطيافها رغم الإنكار، سواء من خلال عدم قمعهم أو وقف اعتداءاتهم أو من خلال تشريع الحكومة لتلك البؤر التي يبنونها على أراضي الفلسطينيين، أو من خلال حمايتهم من قبل جيش الاحتلال عند الاعتداء على الفلسطينيين، أو بعدم محاسبتهم أو مساءلتهم قانونياً عن جرائمهم بحق الفلسطينيين بما فيها القتل، الأمر الذي يجعلهم في الواقع ذراع الحكومة غير الرسمية ومساعدها في تحقيق أهدافها بشكل غير مباشر. وضعت اتفاقيات أوسلو وتفاعلاتها تدريجياً الواقع الحقيقي أمام الفلسطينيين، فارتفاع أسهم الأحزاب اليمينية في الشارع الإسرائيلي، ووصول نتنياهو اليميني المتشدد، رغم فساده، ست مرات لسدة الحكم، وأفول نجم أية أحزاب يسارية تدريجياً، وما عكسته انتخابات الكنيست الأخيرة، من صعود لأحزاب يمينية متطرفة، ولأعضاء كنيست متورطين بأعمال إرهابية، مثل حزبَي القوة اليهودية والصهيونية الدينية، وبن غفير وسموتريتش، يؤكد أن اللغة الوحيدة التي يعرفها الشارع الإسرائيلي عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع الفلسطينيين هي النفي وإلغاء الآخر، أي لا أمل في تحقيق حل الدولتين، من خلال المسار القائم.
ولمواجهة هذه الحقيقة، وتغيير المعادلة التي وضعها الاحتلال، لايزال بالإمكان العمل على تعطيلها، لأن الفلسطينيين لا يزالون يمتلكون القوة الأهم وهي الإيمان بالحق والاستعداد للتضحية، ويشهد الواقع الشعبي الفلسطيني الداعم بقوة للتصدي للاحتلال ومواجهته على هذه الحقيقة. فقد أثبت الشعب الفلسطيني في جميع الظروف، ورغم كثرة العثرات أنه شعب صابر مؤمن بقضيته ولا يساوم حول حقوقه. ولمواجهة المحتل بشكل فاعل في ظل تلك المعطيات فلا بد من توفر بعض الشروط، وقد يكون أهمها الآن هو الاتحاد وإنهاء الانقسام، إذ إن ذلك يمكن الفلسطينيون من العمل كجبهة واحدة لصالح هدف واحد، وهو التحرير. إن إنهاء الانقسام والاتحاد يمكن الفلسطينيين من تقسيم العمل المقاوم بين الأطياف السياسية المختلفة.
ويعد تقسيم العمل من أهم شروط المواجهة، لأنه يحافظ على الإنجاز السياسي والدبلوماسي والعلاقات الفلسطينية مع العالم، وهو الأمر الذي يعد مهماً في ظل عالم اليوم، كما يحافظ على العمل المقاوم المكلف للاحتلال، والذي سيجبره على إعادة النظر بمعادلته في الأراضي المحتلة.
ويضمن تقسيم العمل بين الأطياف الفلسطينية المختلفة على صقل استراتيجيات تضمن تخفيض الخسائر الفلسطينية إلى أقصى درجة ممكنه، تبعاً للظروف والأوضاع القائمة الآن في الأراضي المحتلة. فأهل القدس مطلوب منهم الصمود والثبات والعمل المقاوم المحسوب للحفاظ على وجودهم وبقائهم في القدس على سبيل المثال، بينما يبدو هامش أهل الضفة الغربية في المقاومة المباشرة أوسع، كما يبدو دور فلسطينيي 1948 مهماً، والذين يعملون من داخل منظومة الاحتلال نفسها، وجزء لا يتجزأ من الدور الفلسطيني العام لمواجهة الاحتلال، ويبقى دور غزة أصيلاً لا يمكن الاستغناء عنه في تلك المعادلة، تماماً كما يبقى دور فلسطينيي اللجوء حاضراً وضرورياً، ضمن منظومة عمل متكاملة ومنسجمة. ويبدو السر الأهم لتحقيق ذلك الحلم في الوحدة والاتفاق حول الهدف، والقيادة الحكيمة والواعية، القادرة على التوجيه والتحكم، حتى وإن كان عن بُعد.
سنية الحسيني
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال