مع الحرب الأوكرانية، انقلبت الآية: روسيا، وريثة السوفييت، توّجت انقلابها على "خطّ الشعوب"، وخرجت على أوكرانيا بطموحاتها الإمبراطورية الإمبريالية التوسّعية. وعلى درجة الشراسة نفسها التي كانت للإمبرياليين المعاصرِين، أميركا وأوروبا، في مشوارهم الطويل للهيمنة على "العالم الثالث"احتفلنا، منذ أسابيع، بذكرى مرور زهاء 12 عاما على الموجة الأولى من الحراك العربي، الذي حمل مسمى الثّورة أو الانتفاضة، وانتهى إلى ما انتهى إليه من فشل كلي أو نسبي. وعليه، سعيا إلى شرح ما جرى، تحاول المقالة الغوص في الأسباب التي حالت دون نجاح أيّ من الثّورات/ الانتفاضات/ الحراكات التي جابت العالم العربي في موجتي ما بات يُعرف بـــ"الربيع العربي"، بقصد استخراج قواعد لا يمكن لأي تجربةٍ، في المستقبل، الفكاك من تبنّيها بهدف كفالة شروط نجاح مشروع التغيير وتحصينه من أسباب الفشل.
قد ننطلق من النّموذج التُّونسي الذي تميّز بأنّه كان الأقرب إلى النّجاح والمثالية من حيث جمعه مؤشّرات الدّيمقراطية على غرار التّوافق على دستور بجمعية تأسيسية، تنظيم الانتخابات، عدّة مرّات، بنزاهة المسار من منطلقه إلى غاية نهايته، ما سمح، للمفارقة، لقيس سعيّد بالوصول إلى قصر قرطاج رئيسا لتونس، من دون إغفال تعرّض البلاد لخلافات وارتدادات سياسية، كان مردُّها إلى نخبة سياسية رضيت الاستقطاب أساسا للعمل السياسي، بالرّغم من بدوّ فشله في أكثر من تجربةٍ منها، الأقرب جغرافيا، التّجربتين الجزائرية والمصرية، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ظلّت ملازمة للتّجربة التونسية بفعل تضافر عوامل عدة، منها الثّورة المضادّة التي أغلقت منافذ المساعدة أو الحصول حتّى على قروض، فضلا عن إمكانية استعادة أموال الفساد المنهوبة ممّن أطيحوا من عصابات حكم سابقة.
فشلت باقي التّجارب الأخرى التي جرت في موجتي الرّبيع العربي، الأولى والثّانية، بسبب سياقات عدّة سياسية، اقتصادية، جيوسياسية وخارجية، إقليمية ودولية، يمكن أن نحمّلها جزءا من ذلك الفشل، مستخرجين، للبحث والدّراسة، مستقبلا، قواعد عشرا قد تكون هي النّبراس لما يمكن إحداثه من صنع لعروج تغييري آخر، لا يكون على شاكلة صناعة الفشل التي أصبحت لصيقة بمنطقتنا، وجعلت منها الاستثناء من التّغيير، حصرا.
الدّيمقراطية مضادّ حيوي للصّراع وتداعياته، خصوصا في الجانب الاقتصادي وروافده الأمنية على غرار الهجرة غير الشرعية
القاعدة الأولى أنّ النُّخبة التي تتولّى تبنّي التّغيير من بيئة التّغيير وليس من هامشه، من خارج تلك البيئة أو تكون قد خالطت ما هي بصدد تغييره، كما يجب أن تكون متشبّعةً بمبدأ القبول بمسار التّغيير، وليس جزءا منه، فقط. وإذا لم تكن هي في قمّة ما بعد التّغيير تنقلب عليه، بل تؤلّب على جانب من النُّخبة التي تكون قد رضيت بقواعد اللُّعبة، ولسوء حظّها، وقع عليها الاختيار لتحكُم. تلي ذلك، ضروريا، قاعدة ثانية تتضمّن عدم القبول بتصريحات القناعة، الرّضا المنافق أو الخداع المخبّأ، بل، حتما، مرحلة تتضمّن مسار/ سياق وضع لبنات التّغيير وفق توافقاتٍ تتبع باتّفاقات مكتوبة وبضمانات قد تكون، للأسف، ربّما، بشهود (ضمان) خارجي حتى يكون التغيير، من لدن تلك النُّخبة، في مسار توافقي واتفاقي، حقيقة لا مجازا.
يُستتبع ذلك، بقاعدة ثالثة، تضع التغيير في مساره الصّحيح بإشراك الجانب الآخر من المعادلة، بالإجراءات نفسها، وبشكل يكون تفاوضيا يرضى بالتدرّج وبالتوافقات التي تنبذ الأحلام، أي التّغيير الكامل وفي أوجز وقت، بل وبما أسرع قدوم الفشل، من قبل، أي قوانين العزل بما ينتهي، حتما، إلى توافقاتٍ مع صاحب القرار الفعلي، وبضماناتٍ يمكن أن تشهد، أيضا، إشهادا خارجيا وداخليا يضمن عدم الانقلاب على ذلك كله.
لا يستثنى، في القاعدة الرّابعة، من التّغيير الجانب الحيوي الذي يضمن له الدّيمومة، وهو الجانب الاقتصادي، باستتباع التوافقات بجانب مالي، يكون السند لذلك التغيير، حتى لو وصل الأمر إلى التّصالح مع الفساد، ذلك أنّ عمليات استعادة المال المنهوب المهرّب إلى الخارج لم تجد نفعا، وتجارب التّغيير التي فشلت كان الجانب الاقتصادي هو الأوضح، وهو الباب الذي لم تعرف النُّخب، من الحكم ومن المعارضة، الوصول إلى طفرةٍ تعيد إلى الاقتصاد توازناته، وتكون هي ثمرة التغيير ولو بعد حين، أي بدون استعجال عائدات التغيير.
طبعا، من الأهمّية بمكان التأكيد على أنّ هذه القاعدة هي الأساس، لأن تجارب الربيع العربي الفاشلة كلها كانت بسبب اقتصادي أو بسبب استتباع المساعدة باتخاذ إجراءاتٍ تنقلب على التغيير، ما يجعل من الثمار الاقتصادية مسار الإصلاحات وطابعها الاجتماعي، بصفة خاصة، للفئات المهمّشة أو التي تكون قد عانت كثيرا من مظلوميات المشروطيات (البارزة في شكل البطالة بسبب توقيف ما تُعرف بالجوانب الاجتماعية في الميزانيات، أو تقليص حجم الموظفين إضافة إلى المديونية الخارجية، وهما عاملان تشترك التجارب الفاشلة للتغيير في معاناتها منهما) التي وضعتها المؤسّسات الاقتصادية الدولية لإقراض الدول أو لإسعاف بعض عجزها بسبب الفساد، سوء التسيير أو رهن ذلك الاقتصاد لرؤوس الأموال الأجنبية، بصفة خاصة.
علّمتنا التجربة التُّونسية، وهي قاعدة خامسة للنّجاح، أنّ وثيقة الدُّستور، ذلك العقد الاجتماعي الجديد التّوافقي، يجب أن يمرّ عبر جمعية تأسيسية تمثيلية للنُّخب التي تحدّثنا عنها، وتخضع لنقاشاتٍ موسّعة مع جدول زمني لكلّ تلك الإجراءات، تنتهي باستفتاء تحضره وتشهد عليه، لضمان مصداقيته، جهات دولية يتوافق الجميع على قبول حضورها، مع تضمين تلك القاعدة الدستورية تحصينا من تغييرها أو الانقلاب عليها.
تجارب الربيع العربي الفاشلة كلها كانت بسبب اقتصادي أو بسبب استتباع المساعدة باتخاذ إجراءاتٍ تنقلب على التغيير
يحتاج التغيير لينجح، في قاعدة سادسة، إلى منع كلّ ما يمكن أن يتسرّب منه الاستقطاب، أيّا كانت طبيعتُه، لأنّه المرض العضال الذي يحول دون نجاح أيّة تجربة ديمقراطية. وقد أكد التاريخ، من خلال تجارب معروفة، الجزائر ومصر، مثلا، أنه من أوصل إلى نقطة اللارجوع، أي الاقتتال بين فئات الشعب ممثلة في فصيلين متميزين.
تعتبر القاعدة السّابعة أولى قواعد تقاطع التجارب التغييرية مع السّياقات الإقليمية والدُّولية، إذ إنّ تصفير المشكلات قاعدة ذهبية لمنع السّياقات تلك من الانخراط في اللعب على أوتار الخلافات، الاستقطاب أو الحاجة الاقتصادية لمنع التّجربة من النّجاح. وبالتّالي، يستدعي تحصين التّجربة منع أي من النُّخب، بالقواعد التي سبق الإشارة إليها، من الاستقواء بالخارج، أيّا كان، على الدّاخل كما يستدعي النّجاح فكّ الارتباط بين التجربة والمشكلات الموجودة في الإقليم، فترة محدّدة، ذلك أنّ التّجارب تُعلّمنا أنّ النجاح يكون بالانكفاء على الداخل والزلّة، إلاّ عن الملّفات ذات الطبيعة الاقتصادية. مع العلم، هنا، أنّ إنجاح الحيوية منها (الاكتفاء الذاتي، الاعتماد على الذّات و إطلاق مسارات الانعتاق من الرّيع إضافة إلى تحديد القطاعات ذات الطّبيعة الإستراتيجية وإعلانها ممنوعة عن البيع، ممنوعة عن دخول رأس المال الأجنبي فيها) يحتاج الانخراط في بعض المفاوضات السّياسية. ولكن بشكل يحفظ التّجربة ولا يعرّضها للخطر، كما شاهدنا في أكثر من تجربة فاشلة.
تشير القاعدتان الثامنة والتاسعة، نتيجة للقاعدة السابقة، إلى أهمّية السّياقين الدُّولي والإقليمي بالنسبة لإدراكه التّغيير في فضائنا الشرق أوسطي، ما يستدعي تغيير قواعد اللُّعبة وإبراز انكفاء التجربة على الداخل والابتعاد عن التّصريحات الحالمة والإجراءات ذات الطّبيعة المستفزّة، بسبب توازنات القوة على المستوى الدُّولي، التي قد تورد التّجربة موارد الهلاك، ذلك أنّ نجاح تجربة يعني إمكانية الانتشار والقوّة تصنع المناعة من خطر تهديدات السّياق الدُّولي الذي ينظر إلى التّغيير بعين الريبة، ذلك أنّ مسار القوّة يبدأ من هنا، حتما.
الاستقطاب، أيّا كانت طبيعتُه، هو المرض العضال الذي يحول دون نجاح أيّة تجربة ديمقراطية
كما لا ينبغي، لضمان النجاح للتغيير والحؤول دون ارتداده إلى ثورة مضادّة، إغفال تكثيف الجهود لاقتناع/ لإقناع نخب السّياقين الدُّولي والإقليمي بأنّ التّغيير القادم في فائدة التّعاون والشّراكة، وإبراز أنّ الدّيمقراطية هي مضادّ حيوي للصّراع وتداعياته، خصوصا في الجانب الاقتصادي وروافده الأمنية على غرار الهجرة غير الشرعية، المطالبات التي تغذّيها البطالة، الهوية أو المناطقية وتأثيرات ذلك على التنمية الاقتصادية وجرّ الفضاء كلّه، على المستوى الإقليمي، بصفة خاصّة، إلى تفاعلات صراعية بدون مخارج على المديين، القصير والمتوسّط، كما نشاهد في عدّة نقاط ما زالت ساخنة، بالرّغم من مرور أكثر من عقد على الموجة الأولى للرّبيع العربي.
القاعدة الذّهبية، العاشرة، خاصة بالقيادة الجماعية للتجربة في الأعوام العشرة الأولى لتعزيز التغيير، ومنعه من الارتداد، مع التأكيد على وجوب أن تكون القيادة مشتركةً بين التّجربة، الرمزية التّاريخية، المصداقية من خلال الحكمة إضافة الكفاءة مع تطعيم القيادة، حتما، بعناصر لها تجربة في التّعامل مع البيئة في السّياقين، الإقليمي والدّولي، وخصوصا على الجانب الاقتصادي الحيوي والاستراتيجي.
شاهدنا، في التّجارب الفاشلة، أن هذه القيادة لا تبرز إلا في وقت الفشل، لتقود ما بات يُعرف بمهمّة "الخلاص" (حملت تلك القيادات مسمّيات جبهة الخلاص في أكثر من تجربة، ولكن عند الارتداد، وليس لتحصينها من الفشل). ولهذا، عامل القيادة الجماعية، في اتّخاذ القرار والعمل، كفيل بتحصين التّجربة من الارتداد والفشل، كما حصل في التّجارب التي نعرف، الآن، أسباب فشلها.
تلك هي القواعد الذّهبية العشر لنجاح أيّة تجربة تغيير في منطقتنا. وهي، للعلم، ليس حصرية، وإرشادية فقط، لكنها حيوية مستوحاة من التّجارب الفاشلة التي عرفت الاستقطاب، ارتداد الليبرالية السّياسية إلى ما يُعرف بمبدأ "الإمارة ولو على الحجارة"، إضافة إلى خطر السّياقات الإقليمية والدُّولية والعامل الاقتصادي على التّغيير، وكلُّها تهديدات يجب الانتباه لها وتحصين التّجارب التغييرية، مستقبلا، منها إذا أردنا النّجاح والخروج من دائرة الاستثناء التّحوُّلي الدّيمقراطي.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال