في مثل تلك الأوقات، تبدو الدنيا صغيرة جداً ولا وزن لها.
تهون فيها كل النّعم إلا نعمة الأمان.
أقرأ شهادات وأسمع حكايات، لمن نجوا من زلزال تركيا وسوريا المُميت، وتأبى طبيعة شخصيتي البصرية، من ألا تتخيل المشاهد كما وصفها أصحابها بالضبط، بكل آلامها وقسوتها التي لا تُحتمل.
كل هؤلاء القتلى والمفقودين والمُشردين، كل ذلك الدمار في هذا البرد القارس بلا مأوى ولا ملابس ولا طعام، كل تلك القصص المأساوية عن فقد أقرب الناس وأحبهم لبعضهم، وكل هذه الساعات الطويلة من المعاناة والألم تحت الأنقاض، وعمّن ما زالوا بعد 8 أيامٍ من الزلزال، ينتظرون بجوار البنايات المتهدمة حتى خروج جثث عائلاتهم، وعمّن صاروا هائمين على وجوههم في الشوارع، وقد فقدوا عقولهم من هول ما رأوه وما عاشوه خلال الأيام الماضية، كل هذه الأمور الكارثية، جلبت معها سؤالاً مُوجعاً ولكنه مألوف، أرى النّاس يسألونه بصوتٍ خافتٍ، بعد وقوع كل فاجعة كبيرة أو مُصابٍ أليم، وهو: أين الله من كل هذا؟ كيف يسمح الله بمثل ذلك الدمار القاتل، خصوصاً للأطفال الأبرياء؟ لماذا خلق الله الشر؟
أخطر ما في هذا السؤال، الذي سيظل يُسأل إلى يوم القيامة، أنّه قضية إيمانية بحتة، لا يجوز المساس بها، لأنه يدخل في صُلب عقيدتنا كمسلمين، والتي تقتضي التسليم لله الواحد في كل أمور ديننا ودُنيانا، وإن كان ذلك لا يعني أنّ التفكّر في تلك المسألة هو أمرٌ سيئ، لأنّي أؤمن بأنّ من أراد معرفة الله بصدق، فكل الأمور في النهاية، ستؤول به إلى الله الواحد الأحد، حتى وإن ظلّ بعض الوقت في صراعٍ مع الوساوس الخبيثة.
لماذا خلق الله الشر؟
هذا المقال هو تجربتي الذاتية المحضة في البحث عن ذلك السؤال الذي شغلني كثيراً: لماذا خلق الله الشر؟ وأعرض فيه أفكاري وخواطري الشخصية حول هذه المسألة الحسّاسة، وأدعو الله أن يرزقني الهداية للصواب والرشاد في عرض تلك الخواطر.
هي رحلة قصيرة، أرجو أن تسيرها معي خطوة بخطوة، ومن البداية.
حينما كنت طفلة ساذجة، كانت الدنيا جنّة
صورة قديمة توقفت أمامها طويلاً منذ سنواتٍ طويلة لا أعرف عددها، يظهر فيها هياكل عظمية بشرية كثيرة، في مكانٍ يبدو أنّه ناءٍ بإحدى الصحارى بالعالم، ومكتوب تحتها تعليق يقول: " وتقولون إنّ هناك ربّاً!"
كنتُ صغيرة وقتها، ولم أكن قد رأيت من الدنيا بعد، ما يجعلني أتساءل لماذا خلق الله الش على هذه الأرض؟، على العكس، كنت أتساءل، لمن صُنعت جهنّم هذه؟ من يستحق ذلك العذاب الأبدي الذي تتبدّل فيه الجلود بعد احتراقها ليذوقوا العذاب مرّة بعد مرّة؟
كنتُ أندهش من كثرة الأدعية القرآنية التي تتوعّد الظالمين، أو تطلب النصر من رب العالمين. كنتُ أحسب أنّ الدعاء بالرحمة في الدنيا والآخرة، والدعاء بالصحة والرزق والبركة والأولاد الصالحين وغيرها، هي الأدعية التي نحتاجها أكثر فعلاً في الحياة.
كم كنت ساذجة في تصوراتي تلك!
الآن أعلم أنّ هناك شراً لا يمكن تخيل وجوده حتى على هذه الأرض. الآن أُدرك أنّ هناك صنفاً من النّاس، يستحقون غرام عذاب جهنّم بجدارة، بل وبتّ أخشى من أن تُصيبهم رحمة الله الواسعة، فيفلتوا من العقاب. الآن أعرف ما هو أقسى من ذلك حتى، وهو أنّ الأمر لا يجب بالضرورة أن يكون شراً محضاً، حتى يُصيبني أنا أو أحبتي أذىً ما أو ألم ما، قد يحدث ذلك بشكل نقول عليه صدفة أو حظاً، وهو ليس كذلك.
هو في الأول والآخر قدرٌ من أقدار الله.
وأقرب مثال على ذلك هو زلزال تركيا وسوريا، والذي بلغت ضحاياه عشرات الآلاف، يزيد عددها في كل يومٍ.
هل قدّر الله لعباده كل ذلك العذاب، بمن فيهم من أطفالٍ أبرياء؟
سؤال أستطيع الآن أن أسأله لنفسي بصوت عالٍ، عازمة على أن أبحث فيما وراء السؤال، كي يطمئن قلبي، وتهدأ نفسي.
عن الشرّ الموجود بالعالم
أتذكر في عام 2015 واقعة مؤسفة حدثت في مصر، معروفة باسم "كلب شبرا"، وهو الكلب ماكس، الذي تخلى عنه صاحبه لمجموعة من البلطجية بسب خلاف ما بينهم، وتم تصويرهم في الشارع وأمام المارّة وهم يعذبون الكلب المُقيّد بالسكاكين، قبل أن يذبحوه بوحشية.
في نفس العام، ولكن على أحد الشواطئ التركية، صُدم العالم كله بصورة لطفلٍ غريقٍ عمره 3 سنوات مُلقى على الشاطئ، في محاولة فاشلة من أهله للخروج من سوريا، عرفت فيما بعد أن اسمه "إيلان".
بالعام الماضي، طفل آخر، صار لاسمه وقع الألم في قلبي، "ريان"، الطفل المغربي ذو الـ5 سنوات الذي وقع في بئرٍ عميقة، واستمرت محاولات إخراجه 5 أيام، حتى خرج ريّان من البئر أخيراً، ولكنه خرج ميتاً. ذلك الحادث الذي جعل الدنيا تُظلم في وجهي بأكثر مما فعلت مواقف مؤلمة مررت بها في حياتي.
الإنترنت مليء الآن بفيديوهات من جميع أنحاء العالم، فيها تعذيب وقتل للأطفال والحيوانات، وعلى صفحات الـ Deep Web يوجد كل ما لا يخطر على قلب بشرٍ من شرورٍ وفظائع.
بعدما نضجت في العُمر، بات الموت لا يشغلني، بقدر ما تشغلني تلك المعاناة المُستمرة فيما قبل الموت، وذلك الألم الذي يمر به أصحاب المأساة لفتراتٍ طويلة، خاصة لو كانوا أطفالاً أو حيوانات، لا حول لهم ولا قوة.
الآن أرى مأساة "ريّان" تتكرر من جديد، ولكنّها أقسى ألف مرةٍ، فمن تعرضوا للدفن أحياء تحت الأنقاض في فاجعة زلزال سوريا وتركيا، صاروا كأنّهم عشرات آلاف "ريّان"، جرحى وجوعى ومفطوري القلب، في انتظار من ينتشلهم من تحت الأنقاض، قبل فوات الآن.
رحلتي في البحث عن حكمة وجود الشر والإجابة على سؤال: لماذا خلق الله الشر؟
"لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشرّ ليس إليك".
كان ذلك هو ظنّي في الله، لا يُمكن أن يُريد الله بعبيده الشرّ أبداً.
ولكن لماذا لا يمنع ذلك الظن إذاً، من أن ينفطر قلبي على كل هؤلاء المُعذبين في الأرض؟
لماذا أشعر بأنّ إيماني ينقص بعد كل ابتلاءٍ أمر به، أو يمر به غيري حتى؟
ولماذا حينما تهدأ خواطري، ويطمئن قلبي لمعاني عِظم الابتلاء وثواب الصبر وتهذيب القلب من التعلق وغيرها، أنسى كل ذلك سريعاً مع أول تجربة قاسية جديدة؟
لماذا خلق الله الشر الأطفال الأبرياء
حينما بحثت عن الحكمة من وجود الشرّ على الأرض، وجدت إجابات عدّة، قال بعض الشيوخ إنّ الشر مُكمّل للخير، فلا معنى للخير بلا شرّ، فالشيء لا يُعرف إلا بضدّه، وقس ذلك على كل الأمور، فإن لم يكن هناك حزن، فلا توجد سعادة، وإن لم يكن هناك مرضٌ، فلن توجد العافية. مسألة فلسفية بعض الشيء، ولكنها حقيقية تماماً، وحينما فكّرت فيها أكثر، وجدت أنّه بدون كل هذه الأضداد لن يكون للدنيا معنى أو طعماً كما يقولون، ستتساوى كل الأمور وكل المشاعر، هي حياة أقرب إلى الموت.
أُدرك ذلك الأمر، ولكن لماذا كل ذلك القدر الهائل من الألم؟
"أن تؤمن بالقدر خيرهُ وشرّهُ".
ذلك الركن من أركان الإيمان، هو الركن الأصعب على الإطلاق، وهو ركنٌ قلبي كالإيمان بوجود الله، فلا يُمكن أن يخدع الإنسان نفسه فيُرغمها على الإيمان به، فإما أن يؤمن قلبه أو لا يؤمن.
رأيٌ آخر يقول إنه لابد وأنّ هناك خيراً في كل شرّ، حتى وإن كنّا لا نراه، وضربوا مثلاً عظيماً بقصة سيدنا موسى والخضر في سورة الكهف، والتي حين تأملتها جيداً، أزاحت من على قلبي حجراً ثقيلاً..
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً.
في القصة المعروفة معاني عظيمة، جميعها عن ذلك الخير الذي يكمن بداخل الشر، الذي نراه شراً حسب نظرتنا الناقصة للأمور، وهو تفسير يقترب كثيراً من التفسير الذي يقول إنّ الشرّ في الحقيقة، ليس في فعل الله نفسه، بل في مفعولاته، كمثال الكوي بالنّار من أجل شفاء المرضى، فالفعل حينها فعل خير، ولكن وقعه على المريض، بدون إدراك لما وراء ذلك الفعل، هو شرٌ لأنّه جلب عليه الألم.
كلام منطقي، دخل قلبي وعقلي معاً.
قيل أيضاً في هذه المسألة، عن أنّ الدنيا كدار ابتلاء، لابد أن تكون دُنيا ناقصة، وليست جنّة مُبهجة، كل ذلك الشرّ والألم والفقد، مقصودٌ، فمن نجح في الاختبار بالتسليم والاحتساب فقد نجا، ومن جزع وسخط، فقد خسر الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.. [العنكبوت – 1 : 3].
قال الله عن اختباره لعباده بأنّه سيكون فتنة، أليس ذلك الجدل الدائر عن الشرّ فتنة ما بعدها فتنة؟ يزداد إيماني بأنّ الأمر من جديد مقصودٌ تماماً، وأنّ الله يعلم وهو فوق كل ذي علم عليم، بأنّ ذلك السؤال سيمزقنا ما حيينا، ولكن الفائز الحقيقي هو من تدبّر فأدرك ووعى قبل فوات الآوان.
عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيراً له. حديث شريف
منذ فترة، قرأت رسالة وردت لأحد الشيوخ، من أبٍ كان مؤمناً بالله، قبل أن يشكّك في وجوده سبحانه وتعالى، وذلك بعدما شاهد جثة ابنه الصغير، الذي قُتل بعد تعذيبه بوحشية. كان الأب يقول، كيف أؤمن بالله وقد ترك ابني يتعرض لكل ذلك الألم؟ وإن كان هناك إله فعلاً، فهو إله -حاشا لله- غير عادل.
بعدما هوّن الشيخ عليه، وتعامل بلطفٍ مع قلبه المكسور حزناً، وأسمعه كلمات الصبر والاحتساب المعروفة، قال له: دعني أسألك سؤالاً، أي الأمرين أكثر عدلاً في رأيك، ألّا يكون هناك إله لهذا الكون، فيفعل كل منّا ما يشاء في دُنياه، ولينتهي الأمر بالموت فلا حساب ولا عذاب، أو أن يكون هناك إله عادل منتقم جبار، يثأر لابنك من قاتله، ويقرّ عينك أنت وابنك في الجنّة، فلا تشقيا بعدها أبداً؟
الخطأ الأول الذي نقع فيه جميعاً، هو أنّنا نظن أنّ القصة قد انتهت فعلاً، بانتهاء حدوثها في الدنيا، رغم أنّنا نؤمن بالجنة والنار والحساب بعد الموت، إلا أنّنا دائماً ما نبكي أحرّ البكاء على قصة محزنة شاهدنا فصلها الأول فحسب، وهرعنا نُصدر الأحكام على عدل صاحبها، بدون أن نرى جزءها الثاني والأخير.
يؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكفَّارِ، فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غَمسةً، فيُغمَسُ فيها، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ، ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرّاً، وبلاءً، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ، فيُغمَسُ فيها غمسةً، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ، أو بلاءٌ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ، ولا بلاءٌ.
وأخيراً، حقيقة لا شك فيها، بأنّ كل شيء لابد أن ينتهي، بلاء أو عافية، طال الأمر أم قصر، كل ذلك الألم سيذهب إلى غير رجعة بمشيئة الله، فقط علينا التيقن من عدل الله، والإشهاد له بالحكمة في كل الأمور، والثبات أمام عظائم الأمور.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
سارة يوسف - دارسة للأدب الإنجليزي، ومهتمة بالفنون والسينما
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال