يهدف المقال إلى القيام بعرض لأهم معضلتين من المعضلات العديدة التي تواجه الاقتصاد المصري هذه الأيام والسياسات المتبعة حاليا بخصوصهما مع إبداء بعض المقترحات من جانبنا.
1- يعتبر التضخم الجامح الحاصل حاليا نتيجة تعويم الجنيه المصري وما تعرض له من انخفاض شديد أمام العملات الرئيسية الأخرى ومن أهمها الدولار، يعد هذا التضخم غير المسبوق في تاريخ مصر الحديث من أخطر التحديات التي تواجهها الحكومة المصرية حاليا حيث انخفضت قيمة الجنيه بنسبة وصلت الآن إلى حوالي 80 % أمام الدولار في أقل من عام واحد ،ولم يعد الأمر يحتمل الكثير من الجدل بإن الاقتصاد المصري يعاني من اختلالات هيكلية عميقة وخطيرة، فبالإضافة إلى انهيار الجنيه هنآك ارتفاع قياسي في معدل التضخم حيث وصلت نسبته بحسب نشرة الجهاز المركزي للإحصاءات في مصر إلى ما يقارب 25% وفي الحقيقة فإنه أعلى من هذا بكثير فيما يتعلق بالسلع الغذائية المحلية المنشأ، وهذا يعني انخفاض القوة الشرائية للجنيه بنفس النسبة.
علمًا بإن القوة الشرائية للجنيه أقل من هذا بمراحل فيما يتعلق بالسلع ومستلزمات الإنتاج المستوردة والتي يتعين سدادها بالدولار أو ما يعادله. والأهم من كل هذا هو انخفاض قيمة مدخرات القطاع العائلي في مصر عند تقييمها بالدولار بنسبة ال 80% التي ذكرناها أعلاه.
ولذلك كنا نقول دائما في مقالات سابقة لنا بإن أسرع طريقة لإفقار أي شعب هي تخفيض قيمة عملته المحلية ولذلك كنا ولازلنا ننصح بتنويع مدخراتنا وشقى عمرنا بين أصول ملموسة مختلفة في حال المقدرة على هذا، وفي حال تعذر هذا علينا أن نحاول توزيع مدخراتنا بين عدد من العملات الورقية المختلفة بدلا من تركيزها في عملة واحدة، كما ننصح بشراء قطع الذهب الخام أو الفضة حتى ولو كانت من فئة الربع أونصة باعتبار أنها مخزن جيد للقيمة، والملاحظ هنا وجود طلب كبير على الذهب هذه الإيام من جانب البنوك المركزية على مستوى العالم لأن هناك حالة من عدم اليقين بخصوص أداء الاقتصاد العالمي خلال العام الجاري وسوف نكتب عن هذا الموضوع لاحقا. والبديل الآخر هو استثمار بعض مدخراتنا في صناديق الاستثمار وهذه الصناديق تقوم عادة بتنويع محافظها الاستثمارية بين العديد من أسهم الشركات المحلية المقيدة في البورصة، وأغلب هذه الشركات تتمتع بمرونة عالية في أسعار منتجاتها بما يمكنها من زيادة أسعار منتجاتها كلما زاد التضخم بكل أسف لأن المستهلك النهائي المسكين هو الذي يتحمل وحده عبء التضخم في هذا العالم المتوحش.
وعبر تاريخ الفكر الاقتصادي كان التضخم وانهيار العملات المحلية هو السبب في زعزعة الاستقرار المجتمعي والاضطرابات وزيادة معدلات الجريمة والعنف في العديد من الدول. ولذلك فإن المهمة الأولى لكل البنوك المركزية في العالم هي السيطرة على معدلات التضخم والحفاظ على قيمة العملة المحلية. وللبنوك المركزية أدوات كثيرة في السياسة النقدية من أهمها أسعار الفائدة وكمية النقود المتداولة لتحقيق هذه الأهداف. وعندما تتعارض السياسة النقدية مع السياسة المالية التي تهدف بالأساس لتحقيق النمو الاقتصادي وباعتبار أن هذا النمو يواكبه دائما زيادة غالبا ما تكون معقولة في التضخم كما يحدث في الاقتصادات المتقدمة، نقول إنه عندما تتعارض أهداف السياسات النقدية والمالية، فإن صناع القرار في الغرب يمنحون الأولوية للسياسة النقدية حتى ولو أدى هذا إلى نوع من الكساد وانخفاض نسب النمو والتوظيف.
وللسياسة المالية أيضا أدواتها للتخفيف من حدة التباطؤ الاقتصادي والبطالة بسبب سياسات مكافحة التضخم. ومن أهم أدوات السياسة المالية العديدة في هذه الظروف برامج الرعاية الاجتماعية للمسنين ودعم العاطلين عن العمل والتأمين الصحي….إلخ
وهو ما ننصح به دائمًا حكوماتنا لأن لهذه البرامج أثرها الجيد الذي نعرفه كاقتصاديين على النمو بمعنى أنها ليست فقط عبء مالي على الموازنة العامة كما ينظر إليها بعض السياسيين. ذكرت كل ما سبق لبيان أن اتباع سياسات نقدية ومالية متوازنة يمكن أن يحل معضلة المفاضلة الصعبة التي نواجهها كاقتصاديين عند التعامل مع التضخم، بمعنى أن المسألة ليست أن علينا أن نختار إما التضخم وإما الركود الاقتصادي، وسوف نوضح هذا أكثر في سياق المقال.
2 - أما ثاني أهم مشكلة أمام الحكومة المصرية فهي الديون المحلية والأجنبية الضخمة والتي بدأت في التراكم والزيادة بمعدلات سريعة في العشر سنوات الأخيرة بحيث وصلت الأولى إلى ما يزيد عن 5 تريليون جنيه ، أما الأجنبية وهي الأخطر فإنها تقدر ب 180 بليون دولار، ونقول أنها الأخطر لأن عدم القدرة على سداد مستحقات الدائنين الأجانب في موعدها يكون له تبعات سلبية على التصنيف الائتماني للدولة، وكل الدول تحول تجنب هذا الموقف لتفادي فرض شروط قاسية عليها في حال احتياجها لأي قروض أو شهادات ضمان مقابل تسهيلات مصرفية أجنبية مستقبلا، كما إن للتخلف عن السداد مردود سيئ وغير مشجع للاستثمارات الأجنبية في الدول غير القادرة على الوفاء بالتزاماتها. وعادة ما تقوم شركات التصنيف الائتماني العالمية بإصدار تقارير دورية عن الوضع الاقتصادي في كل دولة لفائدة الدائنين والمستثمرين الأجانب.
وللأسف فإن آخر تقييم حصلت عليه مصر من شركة فيتش كان بالسالب بسبب المخاوف من عدم قدرتها على تدبير دولارات كافية لتلبية احتياجات البلاد من الواردات الحيوية وفي ذات الوقت خدمة مستحقات الديون الأجنبية. وفي الحقيقة أن الأعباء كبيرة على مصر والوضع فعلا مقلق لإن معظم الديون المذكورة كان من المفترض أن توجه لمشاريع تنموية تدر عائدا واضحًا ومعروفا مسبقا حتى يمكن إعادة سداد هذه الديون وفقا للإطار الزمني لجدولتها. ولكن واضح أن هذا لم يحدث حيث تم السعي للحصول على هذه الديون بشكل متعجل وبدون أي دراسات أو حسابات دقيقة، والأهم من هذا أن معظم هذه الديون تم توجيهها لإنشاء عاصمة إدارية جديدة لمصر تتسم بالفخامة الشديدة ولا تتناسب مع الموارد المالية المحدودة لمصر التي تعاني من عجز مزمن وقديم في ميزانها التجاري حيث تزيد قيمة وارداتها عن صادراتها بما يصل إلى 20 بليون دولار سنويا.
كما أن الموازنة العامة تعاني هي الأخرى من عجز مزمن تقوم الحكومة بتدبيره من خلال الاقتراض المحلي باستخدام أذون الخزانة العامة وطباعة نقود جديدة بدون أي غطاء وهذا أيضا من أسباب الارتفاع الدائم في معدلات التضخم والدين المحلي في مصر والذي وصل إلى 5 ترليون جنيه. وبالرغم من أن مشكلة الديون بدأت في الظهور قبل ثلاث سنوات إلا أن الحكومة واصلت سياسات التوسع في الاستدانة من الداخل والخارج لتمويل شراء أسلحة لا حصر لها وبناء قصور رئاسية وسجون وفنادق ومنتجعات سياحية جديدة وقطارات طائرة …الخ
مع تجاهل شبه تام لمنظومة التعليم والرعاية الصحية والأمن الغذائي والمائي باعتبار أن التنمية البشرية هي أهم مكونات منظومة التنمية المستدامة. وحتى ما تم الترويج له على أنه زيادة كبيرة للاستثمارات الأجنبية في مصر ثبت ما كنا نؤكد عليه بأنها أموال قصيرة الأجل بغرض المضاربة في البورصة المصرية وعلى الجنيه المصري من خلال التحويلات السريعة ما بين الجنيه والدولار بنظام الاحتيال الذي نطلق عليه . Hit and run ولذلك كانت هذه الاستثمارات أحد أسباب تعميق أزمة الاقتصاد المصري حيث خرج من مصر ما يصل إلى 25 بليون دولار خلال فترة قصيرة جدا مع ظهور أول بوادر الأزمة الحالية. ومن هذه البوادر استحقاق فوائد واقساط من ديون مصر الأجنبية تبلغ قيمتها 33 بليون دولار في مارس القادم، علما بأن هذا المبلغ يساوي تقريبا قيمة احتياطات مصر من النقد الأجنبي وهو احتياطي صغير لا يتناسب مع حجم مصر حيث إنه يغطي واردت مصر من الخارج لفترة أربعة أشهر فقط. وبالطبع فإن قلة حجم الاحتياطي والاستحقاقات المتوالية لخدمة الديون الأجنبية والتي زادت أعبائها خلال العام الماضي بسبب قيام البنك المركزي الأمريكي بزيادة سعر الفائدة على الدولار أربع مرات متتالية لاحتواء التضخم في أمريكا وهو ما أضر بالكثير من الدول الآخذة في النمو ومنها مصر. وكان هذا أحد الأسباب للجوء الحكومة المصرية إلى بيع الكثير من الشركات والأصول العامة للوفاء بهذه الالتزامات بعد بدء ظهور علامات التردد على دول الخليج لمواصلة إيداع أموال لدعم مصر، هذا بالرغم من أنهم يحصلون على عائد عليها. وأمس صدر بيان من صندوق النقد الدولي لدول الخليج للوفاء بوعدها لمصر بشراء المزيد من الأصول على مدار الثلاث سنوات القادمة لتوفير بعض السيولة الدولارية لمصر للوفاء بمستحقاتها للصندوق! إنه لشيء محزن أن يصل بنا الحال إلى هذا المنعطف، ولكن علينا أن نلوم أنفسنا وأن نكف عن استخدام حرب أوكرانيا كشماعة لتعليق خبيتنا عليها لأن حرب أوكرانيا اندلعت منذ نحو عام وأكيد أن لها دور في تردي الأوضاع في مصر، ولكن مشاكلنا هيكلية موجودة ومتراكمة منذ سنوات طويلة قبل الحرب، ولكننا تجاهلناها كما أوضحت سابقا، بمعنى أن انتهاء هذه الحرب لن يحل مشاكلنا في مصر بشكل تلقائي.
ولو كان لدى مصر احتياطات أجنبية قوية، ولو أننا استخدمنا ما حصلنا عليه من مساعدات وديون من دول الخليج وغيرها في مشاريع تنموية وفي تطوير طاقتنا الإنتاجية ورفع كفاءة الانسان المصري بدلا من كل هذه المشروعات المظهرية والأسلحة التي لن تستخدم، لو كان هذا ما حصل، لما تأثرنا بمثل هذه الطريقة الدرامية بأي مشكلة خارجية مهما كان حجمها ولما تعرضنا لهذا الامتهان. والخلاصة أن علينا أن نقر باننا اتبعنا سياسات خاطئة يتعين تصحيحها وهذه لن تكون عملية سهلة وسريعة، ولكن دون الإقرار بأن لدينا أمراض عديدة فلن نشفى أبدًا مما نحن فيه وسوف تتدهور الأوضاع أكثر وسيتعرض الجنيه للمزيد من الهبوط والتضخم للمزيد من الارتفاع لو ظل النظام الحالي على عناده.
حفظ الله مصر وشعبها الطيب وللحديث بقية.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال