يبدو أن الانتخابات الإسرائيلية لعام 2022 دشنت مرحلة جديدة في حياة الكيان الصهيوني الاستعماري، فانتقلت الدولة العبرية، بفوز اليمين واليمين الصهيوني، وحيازتهما على أغلبية برلمانية بنسبة تجاوزت الـ 57% والحصول على 64 مقعدا، إلى ما يسميه المحللون الطور الثالث أو الدولة الثالثة أو الجمهورية الثالثة في إسرائيل. وهي جمهورية المستوطنين، وليس جمهورية لكل اليهود، باختلاف تياراتهم وأعراقهم، فهي جمهورية دينية بميول نازية، لا مكان فيها للعرب ولا لليهود العلمانيين، فيما يتحدّث استراتيجيون وخبراء صهاينة عن خطة إسرائيل لعام 2028، التي تحسم فيها المعركة الديمغرافية بين العرب واليهود، خصوصا في الضفة الغربية.
تشير التطورات في الواقع الصهيوني، خصوصا مع صعود اليمين الأكثر تطرّفا بقيادة سموتريتش وبن غفير، وتشكيلهما مع نتنياهو الحكومة، إلى طور جديد للدولة الصهيونية الدينية، حيث كتب أفي رام تسورف، في أحد مقالاته، إن فوز بن غفير وسموتريتش وصعود "الصهيونية الدينية" تطور طبيعي لـ "الدولة الثالثة بمواصفات نازية".
يمكن القول إن الدولة الصهيونية مرّت بمراحل ثلاث في تكوينها ونشأتها ومساراتها باعتبارها دولة شبه ثيوقراطية. وقد شهدت الجمهوريتان، الأولى والثانية، نزاعات بين القيم الديمقراطية الغربية التي طالما تشدّق بها المؤسسون الأوائل والزعماء الصهاينة باعتبارهم يمثلون القيم الغربية الديمقراطية والصهيونية الدينية أو تديين الصهيونية في محاولة لإحداث توازن قوة بين اليهودية والديمقراطية في فلسطين التاريخية. واعتُبر إقرار قانون يهودية الدولة لعام 2018 بمثابة حسم الصراع الدائر بين القوى الديمقراطية والقوى الدينية في إسرائيل لصالح التيار الديني الصهيوني، والذي بدأ بالتشكل منذ عام 1977 حين تسلم "الليكود" بقيادة مناحيم بيغن مقاليد الحكم، ودشّن بها مرحلة دولة الجدار الحديدي التي دعا لها جابوتنسكي وتياره. وكانت ذروة تمكّن ذلك التيار في اغتيال رابين عام 1995 على خلفية اتفاقيات التسوية مع الفلسطينيين، فأسست تلك اللحظة للجمهورية الثانية في الكيان الصهيوني.
دولة يهودية نقية، تغلق أبوابها ليس في وجه غير اليهود (الأغيار) العرب الفلسطينيين فقط، بل أيضا أمام الإسرائيليين العلمانيين أو غير الدينيين
يمكن تبيّن ملامح طبيعة الدولة الصهيونية الدينية "الجمهورية الثالثة" من رؤية بن غفير وسموتريتش الاستراتيجية لدولة إسرائيل الجديدة "دولة المستوطنين" التي يريدانها، تلك الرؤية التي تتجلى أقوالهما وأفعالهما وقيادتهما مجتمع المستوطنين الدينيين في الضفة الغربية الذي يدعو إلى الاستيطان الكامل في الضفة الغربية وبسط السيادة الكاملة للدولة الصهيونية وبناء الهيكل بحلول عام 2050.
يطرح موشيه ديان عقيدته، وهو من مؤسّسي الجمهورية الثانية بالقول: "نحن نقيم المستوطنات لتقييد يد الواقع، لكيلا يرفع أحد نظره، ويسأل لمن هذه البلاد، هذه بلادنا والحدود الدولية لإسرائيل هي نهر الأردن". بدأت وتيرة الاستيطان تتسارع منذ السبعينيات في الضفة الغربية، ولم تتوقف، بل ظلت تزداد شراسة وعنفا في مواجهة الفلسطينيين. وعليه، يرى التيار الصهيوني الديني أن عليه في هذه المرحلة حسم الصراع والسيطرة الكاملة على الضفة وبناء دولة اليهود عليها. كما طرح سموتريتش خطة متكاملة للسيطرة على الضفة الغربية بعنوان "الحسم بدلا من إدارة الصراع"، وهي مقاربة توراتية طرحت في رسائل يهوشوع بن نون تهدف إلى إنهاء الوجود الكنعاني/ الفلسطيني من تلك البقعة نهائيا بالاستسلام الكامل ومغادرة البلاد أو الحرب.
لا يدعو بن غفير وسموتريتش وتيارهما إلى دولة لجميع اليهود، بل هم يرون أن الدولة الجديدة هي دولة الصهاينة الدينيين، حيث هم وحدهم حرّاس الهيكل، والداعون إلى دولة يهودية نقية، تغلق أبوابها ليس في وجه غير اليهود (الأغيار) العرب الفلسطينيين فقط، بل أيضا أمام الإسرائيليين العلمانيين أو غير الدينيين، وهم بذلك يحافظون على المكتسبات والاستحقاقات الاجتماعية أو الاقتصادية، وأخيرا السياسية، في الدولة الصهيونية. وعليه، تعلن الحقبة الجديدة نهاية حقبة الكولونيالية الصهيونية، وتقف حجر عثرة أمام المجتمع الإسرائيلي، ومحاولته المستميتة لإنعاش "القيم الصهيونية والديمقراطية" التي تتيح له البقاء والاستمرار دولة غير وظيفية.
تعلن الحقبة الجديدة نهاية عهد الكولونيالية الصهيونية، وتقف حجر عثرة أمام المجتمع الإسرائيلي، ومحاولته إنعاش القيم الديمقراطية
لعلّ التحذيرات التي ردّدها عشرات من القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين من مخاطر انهيار إسرائيل جاءت في هذا السياق، ومن ذلك أن صرّح الرئيس السابق لجهاز الأمن العام (الشاباك)، يوفال ديسكين، عن تخوفاته بالقول إن "إسرائيل لن تبقى إلى الجيل القادم"، مبرّرا ذلك بازدياد الانقسام بين الإسرائيليين عمقا، حتى أصبح الانقسام بين اليمين واليسار مهيمنا أكثر بكثير من الخلاف بين اليهود والعرب. وقد كتبت صحيفة هآرتس أن إسرائيل حاليا على أعتاب "ثورة دينية استبدادية يقودها اليمين المتطرّف، هدفها تدمير أسس الديمقراطية التي بنيت عليها الدولة"..
يقول ماركس إن "التاريخ يعيد نفسه مرّتين، مرّة على شكل مأساة، ومرّة على شكل مهزلة"، وما نراه الآن في الدولة الصهيونية وسيطرة اليمين المتطرّف على الحكم ينذر بنهاية تلك الدولة الكولونيالية، ولكن حتى تأتي النهاية، علينا مواجهة النازية الجديدة ليس نحن كفلسطينيين وحقوقنا التاريخية بل نحن كفلسطينيين وصراع البقاء أحياء، واليهود غير الدينيين ودولتهم الحديثة أو القومية والحلم الصهيوني ومكتسباتهم التي حصلوا عليها كشعب طيلة السنوات الماضية، فالتاريخ القريب يروي لنا نهايات لقوى عظمى، اعتمدت على مركّبات دينية قادتها إلى الهاوية، كما حدث في ألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشية في أربعينيات القرن الماضي. كما تسبّب صعود القوى اليمينية للصليبيين، كفرسان الهيكل، في القرن الثاني عشر بنهاية حقبة الاستيطان الصليبي وتحرير القدس وعودتها إلى الدولة الإسلامية الأيوبية.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال