كلما وردت مفردة "النخبة" في سياق الحديث عن الشؤون العراقية، تنصرف أذهان متابعين كثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي إلى "المثقفين"، وهؤلاء، في الفهم الشعبي المتداول، هم كلّ من لديه مهارات في التعبير والكتابة، ومن المشتغلين في الأدب والصحافة والذين لديهم قدرة "بلاغية" على جذب انتباه الجمهور العام. وهذه في الحقيقة مواصفاتٌ واسعةٌ صار يسيطر عليها، في السنوات الأخيرة، المستخدمون البارعون لوسائل التواصل الاجتماعي، وليس "المثقّفين" في الوصف الأكاديمي الدقيق.
على أية حال، كانت "النخبة" العراقية، من مثقفين وإعلاميين ورجال دين وتجّار وأصحاب رؤوس أموال وكلّ من يملك رأسمالاً رمزياً أو مادّياً، في حالة انقسام عشية الغزو الأميركي للعراق في إبريل/ نيسان 2003 ما بين مؤيد للاحتلال ورافض له، وداخل دائرتي التأييد والرفض سنجد تنويعاتٍ عديدة. أكثرُها تطرّفاً هو التأييد من أطرافٍ وأفرادٍ عملوا مع سلطة الاحتلال بشكل مباشر، وعلى الطرف المضادّ، فإن الأكثر تطرّفاً في الرفض هم من أيّدوا حمل السلاح لمقاومة هذا الاحتلال، وما بينهما نجد تدرّجات لونية عديدة للمواقف، والتي لا تكون واضحة بسبب سيطرة المتطرّفين في التأييد والرفض على وسائل الإعلام، حتى بات المشهد منقسماً ما بينهما.
أكثر هذه المواقف الوسطية شيوعاً هو ذلك الموقف الذي يرى أن الاحتلال أمرٌ واقع، وعلينا التعامل معه بالوسائل السياسية، لإنهائه بالتوازي مع بناء سلطةٍ وطنيةٍ جديدة تستعيد سيادة البلد وتحرّره من التبعية والتخلّف والتأخّر وانعدام العدالة وتراجع التنمية، وغير ذلك من أزمات كانت موروثة من النظام السابق.
كان هذا الطرف الوسطي يرى نفسه مقاوماً للاحتلال، ومقاوماً للتطرّف الأصولي الذي يدّعي مقاومة الاحتلال، وكان يرى الخلاص منهما بإعادة بناء مؤسّسات الدولة المنهارة، وتكوين سلطة معبّرة فعلاً عن إرادة الشعب، تحمي حقّ جميع المواطنين في التعبير عن آرائهم، وتحمي مصالحهم جميعاً بغض النظر عن خلفياتهم الإثنية والعرقية والدينية.
ولكن هذا التقسيم أعلاه لم يكن واضحاً تماماً، بسبب تداخل حلبات الصراع، فبالإضافة إلى صراع المؤيدين والمعارضين للاحتلال، كان هناك صراعٌ بل واحتراب أهلي ينشأ بين المجموعات السكّانية الكبرى، تغذّيه القيادات السياسية والدينية لكلّ الأطراف، قادنا إلى حرب أهلية فعلية ما بين 2005-2007 ثم خفّ هذا الصراع عشية انسحاب القوات الأميركية المقاتلة من العراق في أواخر العام 2011 وساد تصوّر ما بأن استعادة السيادة الوطنية ستنهي حالة الصراع الداخلي، وتسهّل عملية الانتقال إلى مهام بناء الدولة. ولكن النخب السياسية كانت قد أسّست تقاليد عمل صراعية خلال أكثر من نصف عقد، وبدا من الصعب أن تصحّح من سلوكها، وكانت الفترة تحتاج قيادات جديدة تفكّر بالمستقبل أكثر من تصفية حسابات الماضي، وهذا ما لم يكن متوفّراً، ولم يكن الوعي الشعبي جاهزاً للتعامل معه أيضاً، فقد كان وعياً مثقلاً بجراحات الاحتراب الطائفي والتعبئة السياسية الموجّهة إلى تصوراتٍ غير واقعية تخدم بقاء النخب السياسية الفاسدة ليس إلا.
غياب النخبة الوطنية السياسية المؤمنة بمصالح البلد العليا، أو ضعف دورها، وكذلك سوء النيات المتبادل ما بين النخب الشيعية والسنيّة، ذلك كلّه سهّل على رئيس الوزراء نوري المالكي التوجّه إلى تصفية الخصوم من الطائفة المقابلة، الأمر الذي فتح الباب لمواجهة طويلة انتهت بدخول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والحرب ضده، ثم تغيّر الخريطة السياسية وتصدّر التيارات السياسية التي تملك أذرعاً مسلحة على المشهد عشية انتخابات 2018 التي أقصت صقور السنّة من المشهد، وكذلك أقصت إمكانية إنجاز تسوياتٍ سياسيةٍ للمشكلات التي كانت ترحّل من دون حلّ منذ الغزو الأميركي حتى الغزو الداعشي.
خلال ذلك كلّه، كان الصوت الواقعي للنخب الإعلامية والثقافية يغرق في الأجواء الصاخبة للصراعات المتوالية، ثم لتتوجّه بنادق النظام السياسي بنسخته الجديدة (ما بعد التحرير من داعش) لتجعل من هذه النخب الثقافية والإعلامية العدوّ الأبرز لها. ويعاد إنتاج حكاية مزيّفة عن قصة العراق منذ 2003، تقصي الجميع، سوى الماسكين الحاليين بالسلطة بقوة السلاح والولاء للخارج.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال