الإصرار على تكرار الخطأ هو وُلُوج غير مبصر في الخَطِيئة؛ فما يحدث في هذه المرحلة الكارثية من تاريخ السودان هو تبضيع بائس لبضاعة خاسرة؛ وتجزئة مخزية للقضية الوطنية؛ بدعاوي الحصافة وادِّعَاءِ (العرافة).
والخبر:
بُعَيْدَ الإعلان مباشرة عن قيام (تحالف قوى التغيير الجذري)؛ اندلعت نقاشات حادة -جلها غير مبصرة -؛ بين نخب السياسة والفكر في السودان؛ ولم تعطي النخب الفرصة لنفسها؛ لتدارس البرنامج؛ الذي طرحه تحالف قوى التغيير الجذري في مؤتمره الصحفي؛ الذي انعقد بدار الحزب الشيوعي؛ خاصة تلكم النخب الإصلاحية؛ التي ظلت طوال الوقت تراهن؛ على حل الازمة السودانية الماثلة عبر تسوية مع المؤسسة العسكرية؛ التي اختطفت البلاد ؛ بعد تنفيذ قياداتها لانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م.
غالب هذه النخب المراهنة على الحل الازمة بالتسوية؛ من مناصري تحالف قوى الحرية والتغيير؛ حيث يٌلحظ أنهم انخرطوا مباشرة بعد الإعلان عن تكوين التحالف الجذري؛ في ممارسة هواية التبكيت والتسفيه المفضلة لديهم؛ انطلاقا من عداء غير مبرر لكافة مواقف الحزب الشيوعي؛ ناشرين قبح كيدهم السياسي دون أدنى مراعاة؛ لخطورة وحرج المرحلة التي يجتازها الوطن.
وعوضا عن التعامل المسؤول والنقد الموضوعي؛ لأطروحة تحالف قوى التغيير الجذري؛ التي تحمل بين سطورها كثيراً من الشعارات؛ والاهداف؛ التي تنادي بها قوى الحرية والتغيير -ولو على سبيل المتاجرة -انهالت تلكم النخب بألسن حداد على مواقف الحزب الشيوعي؛ متهمة إياه بشق الصف الوطني؛ والسعي لإقصاء الآخر؛ حتى يستفرد بصدارة المشهد السياسي؛ وكأنما المشهد السياسي السوداني الماثل؛ والمترع بالإخفاقات والفشل يسعد ويغري.
والعجيب في الأمر؛ أن المطلع على تصريحات قادة قوى الحرية والتغيير؛ لا يجد أنها لا تختلف؛ عما جاء في برنامج قوى التغيير الجذري؛ سوى في بضع نقاط قليلة؛ بيد أنها جوهرية؛ تتمحور حول وسائل وأدوات تنفيذ شعارات واهداف ثورة 19 ديسمبر؛ هذا إذا ما تجاهلنا بالطبع ؛ ما تخفي الصدور؛ والضمائر من نوايا؛ فقد علمتنا منعرجات السياسة السودانية؛ ودروبها الموحشة؛ بأن ليس كلما يقال باللسان؛ هو بالضرورة؛ تصديق بالقلب؛ وعمل بالجوارح.
المعلوم ان التحالفات المرحلية؛ تعني اتحادا مؤقتا؛ بين كتل أو أحزاب سياسية للحصول على تأثير أعظم؛ أو نفوذ أكبر؛ وسط الجماهير؛ من أجل تحقيق شعارات؛ وأهداف محددة؛ عبر وسائل وأدوات متفق عليها؛ وبالتركيز على الاهداف المشتركة؛ واستخدام الوسائل والأدوات المتفق عليها؛ تستطيع جميع مكونات التحالف؛ بناء قوتها وتحقيق الهدف؛ والبرنامج المشترك والمتمثل؛ في حالتنا الراهنة في تصفية مؤسسات النظام البائد؛ وبناء وضع ديمقراطي مستدام؛ عبر مرحلة انتقال؛ منضبطة وحاسمة؛ تحقق شعارات الثورة أهدافها.
والطبيعي أنه بعد تحقيق الغاية المشتركة؛ إذا ما سارت الأمور كما هو متعاهد عليه؛ أن ينتهي عمر التحالف المرحلي؛ لذا فقد كان من الضروري؛ لضمان استمرار التحالف؛ ان تلتزم جميع الأطراف؛ بما تم التوقيع عليه من وثائق وتعهدات؛ ولا يسمح بخرقها من قبل أي طرف كان؛ حتى تطمئن جميع المكونات وتشعر؛ بأن الجميع رابح؛ إذا ما نجحت الثورة؛ وحدث التغيير.
لكن للأسف قد أظهرت التجربة الثورية الماثلة؛ والتجارب السابقة؛ أن المكونات السياسية السودانية المتحالفة مرحليا؛ ما إن تتأكد من سقوط رأس نظام الاستبداد؛ حتى تتحول من الحلف والشراكة؛ الى التنافس اللا مبدئي على كعكة السلطة؛ ويبدأ العراك والاستقطاب غير المسؤول؛ الذي يضعف عملية الانتقال ويعوق استكمال مسار الثورة؛ وفي مرحلة تالية؛ يتم التنصل من شعاراتها وأهدافها؛ فتضيع الغايات الثورية النبيلة؛ وتطل بوجهها الكالح الممارسات الانتهازية؛ التي طالما أفشلت ما سبق من هبات جماهيرية.
هذا المرض العضال الذي صاحب جميع التجارب الثورية في السودان دفع مؤخرا؛ قوى التغيير الجذري؛ لاتخاذ قرارها بالخروج من تحالف الحرية والتغيير؛ والاعلان عن إنشاء تحالف سياسي جديد؛ يضم قوى مدنية وسياسية؛ تبدو أهدافها المشتركة وتوجهاتها اقل تناقضا؛ مما يعتبر اختراقاً سياسياً هاماً يتسق في امانة؛ مع مفهوم وفلسفة التحالفات؛ التي تقوم على التعاون والمشاركة واحترام المواثيق والعهود المتفق عليها.
لا ينكر أحد بأن الأداة الناجعة الأكثر قدرة على اسقاط الدكتاتوريات؛ وفق تجارب الثورة السودانية؛ الممتدة منذ ما قبل الاستقلال حتى تاريخه؛ هي التحالفات السياسية العريضة؛ هكذا علمتنا الانتفاضات الشعبية السودانية؛ التي أنجزت في – أكتوبر 1964 وابريل 1985 وديسمبر 2018م.
فعالية التحالفات العريضة؛ وقدرتها على هزيمة نظم الاستبداد؛ حقيقة يصعب الالتفاف عليها؛ او القفز فوقها؛ ولكن يظل السؤال المورق للعقل الجمعي؛ عن أسباب ضعف محصلة تلكم الثورات؛ وعجزها عن احداث التغيير؛ الذي طالما حلمت وطمحت له الجماهير؛ قائما يناطح الفراغ؛ طلبا للإجابة بعد كل تجربة ثورية اجهضت أو تعثرت.
الحزب الشيوعي؛ مطالبا قبل الدخول في أي تحالف مرحلي؛ أن يدرس الشرط التاريخي التي فرض وجود هذا التحالف؛ ويحلل طبيعة المكونات السياسية؛ المفترض التحالف معها؛ حتى يطمئن لوجود رغبة حقيقية في تنفيذ خط سياسي ثوري؛ يخدم مصالح الطبقات الاجتماعية؛ المسحوقة والأكثر فقرا.
والخبر:
خوض ثلاث تجارب ثورية شعبية؛ كانت محصلة نتائجها جميعا؛ دون عظمة ما قدمته الجماهير الثائرة من تضحيات؛ أظن كافيا لذوي الضمائر والحجا من الساسة والنخب؛ لانتشال الرؤوس من الرمال؛ ومواجهة سؤال: لماذا تفشل الثورات السودانية رغم القبول والمشاركة الشعبية العظيمة؟؟. حيث لم تنجح أيا من الثورات الثلاث التي انجزها الشعب السوداني حتى اليوم سوى في اسقاط رأس الاستبداد؛ بينما ظل دوما يعود كامل الجسد المستبد ؛ مرتديا راسا مستبدا جديدا أسوء واضل من الذي سبق.
إن وضع تحليل واقعي؛ يعري أسباب هذه الازمة؛ التي لازمت جميع التجارب الثورية؛ بما فيها المتواترة احداثها اليوم؛ بدلا عن التبسيط والترديد الببغاوي لمسلمة: (أن التاريخ المعاصر للسودان يؤكد أنه لا يمكن إسقاط النظم العسكرية إلا بوحدة شعبية واسعة) هو السبيل الاقصر لتلمس آفاق العلاج.
أما إعادة ترديد مسلمات يعلمها الجميع؛ فهو فعل لا طائل منه؛ لا يقدم إجابات شافية؛ عن أسئلة ظلت تؤرق عقل المواطن؛ الذي ظل يسأل عقب سقوط أي دكتاتور عن ماذا بعد؟ هل إسقاط رأس الاستبداد هو الهدف والغاية من الثورة؟ أم إزالة كامل مؤسسة الاستبداد الفاسدة؟؛ والمضي إلى تأسيس واقعا جديدا أكثر تقدما؛ يحتمل مشاق إعادة بناء الدولة السودانية؛ ومؤسساتها الوطنية؛ بعيدا عن فكر وممارسات دولة اللورد كتشنر؛ الاستعمارية الموروثة؟؟-.
أدى التبسيط وترديد المسلمات؛ وتأجيل الإجابة؛ على الأسئلة الوطنية الحائرة؛ إلى مسخ السياسة السودانية؛ من كونها تعبير عن وعي أيديولوجي شامل؛ الى مجرد كونها تغطية بائسة؛ لتكتيكات معينة؛ وتبريرا ساذجا؛ لمواقف محددة نتاج رؤية تجزيئية عاجزة؛ والمؤسف في الأمر؛ أن كثير من مكونات المشهد السياسي السوداني؛ ظلت تتسابق تاريخيا؛ ولا زالت؛ نحو حضيض هذا الاختيار غير الواعي؛ ناسية او متناسية ؛ أن مهمة قوى التغيير الرئيسية؛ هي دفع المراحل الثورية قدما إلى الأمام؛ نحو غاياتها لتهيئة الظروف؛ الموضوعية والذاتية؛ لتطور الديمقراطية في البلاد.
ترديد مقولات ضرورة وحدة الصف الوطني؛ والحرص على عدم شرذمته؛ خدمة لعملية التغيير؛ دون تحليل منهجي شامل لمعطيات الواقع؛ والاتفاق على برنامج قابل للتنفيذ؛ فيه ابتسار لقضية التحالفات؛ وتغبيش لوعي الجماهيري؛ يسعى لترك الجماهير على عماها؛ بعيدة عن جوهر العملية الثورية؛ وفهم الغاية الحقيقية من قيام التحالفات. من الضروري لانتصار الثورة؛ ان تعي الجماهير الثائرة ما هو المراد بالتحالف؛ وما هي نوايا ومقاصد كل طرف من أطرافه. لقد بت على قناعة راسخة من أن مربط فرس ازمة التحالفات المرحلية في السودان؛ كامن في العجلة والتسرع؛ كون انها ظلت تحالفات اللحظة الجبرية الحرجة.
تحالفات اللحظة الجبرية الحرجة؛ التي تعقد على عجل؛ تستصحب معها مرض عضال؛ يكمن في العقل السياسي في شكل ورم غير حميد؛ يصيب وعي النخب السياسية ولا شفاء او نجاة منه؛ إلا بخلق تحالفات حقيقية مصالح مكوناتها أقل تناقضا؛ عوضا عن التحالفات التي تتناقض مصالح مكوناتها؛ تلك التي تتمزق لحمتها مباشرة؛ بعد تحقيق أول هدف مشترك؛ (سقوط رأس نظام الاستبداد)؛ لتندلع بعدها بين الأطراف حرب ديوك؛ تنهش فيها المكونات الحليفة بعضها بعضا؛ متنصلة من التزاماتها؛ خائنة لمواثيقها وتعهداتها.
يستمر تطور المرض الكامن منهكا جسد التحالف؛ حتى يؤدي بحياته؛ او يشتت وحدة مكوناته؛ مفشلا مرحلة الانتقال الهشة؛ وخالقا فراغا سياسيا ودستوريا وواقعا أكثر بؤس؛ من واقع ما قبل الثورة؛ الشيء الذي يقود المواطن لمستنقع الإحباط القاتل؛ ويضع مجمل البلاد؛ على شفا جرف هار كما هو الحال اليوم.
دوافع مكونات التحالفات المرحلية؛ عادة ما تكون مختلفة؛ فلكل مكون أسبابه الخاصة؛ التي دفعته لدخول التحالف؛ وتفاوت مستويات تلكم الدوافع؛ يخلق حالة من عدم الرضى؛ وإذا ما اضفنا لحالة عدم الرضى؛ معضلات ضعف التفاهمات؛ وعدم الاتفاق المسبق؛ على آليات صنع واتخاذ القرارات؛ وآليات فض النزاعات التي تنشأ؛ في مناخ التشكيك وعدم ترسيخ الثقة بين الأطراف؛ يصبح أمر استمرارية التحالف المرحلي ضرب من الخيال؛ وحرث في البحر؛ إذ سرعان ما تندلع الصراعات الداخلية؛ ناسفة لمكتسبات سنوات طوال؛ من نضال وتضحيات القوى الثورية المخلصة بحق لقضية التغيير.
فالناظر بعين الحياد للتجارب الثورية السودانية الثلاث؛ يلحظ أن هناك دائما قوى بعينها؛ تظل تتحمل وحدها دفع فواتير النضال؛ بينما تعيش بقية القوى السياسية الأخرى؛ في ظل هذه التضحيات؛ كامنة في حيادها؛ أو في تعاون مباشر او غير مباشر مع نظم الاستبداد؛ ويستمر عادة شهر العسل هذا؛ لحين اكتمال شرطي اندلاع الحراك الثوري – الذاتي والموضوعي - ؛ وحينها فقط تنهض القوى الكامنة مجبرة؛ للحاق بقاطرة التغيير؛ ليس ايمانا به؛ بل في الغالب لكي تؤثر سلبا على مساره؛ حتى لا يبلغ غاياته المنشودة؛ والتي ببلوغها تضار مصالحها؛ التي جنتها في ظل كمونها تحت ابط نظم الاستبداد.
وهنا يبرز سؤال منطقي هام؛ ما الذي يدفع القوى الثورية؛ التي ناضلت وضحت طوال الوقت؛ للدخول في تحالف مرحلي؛ مع قوى سهمها في النضال لا يكاد يذكر؟؟ والاجابة على هذا السؤال ميسورة ومحزنة؛ فعادة مع احتدام الصراع بين السلطة؛ وقوى التغيير الراديكالي؛ تسعى هذه القوى؛ لتعديل موازين القوى؛ بضم المزيد من الجماهير لصف الثورة؛ سعيا لكسب المعركة الفاصلة؛ ولا تجد امامها من سبيل؛ في الواقع السياسي السوداني المعقد؛ لاستقطاب الكتلة الحرجة؛ سوى الدخول في تحالف مرحلي مع مكونات غير ثورية؛ مهملة مناقشة التحديات التي لا بد أن تواجه مثل هذا النوع من التحالفات مستقبلا.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال