حكومة التوافق الوطني حكومة الشراكة الوطنية حكومة المكونات الوطنية، وكلها في الحقيقة كانت حكومات محاصصاتية حسب تغريدة السياسي المستقل د. ليث شبر وهو محق في ذلك.
بعد الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي اتضحت الصورة. يريد البعض اعتبار " العرف السياسي" المستورد من التجربة اللبنانية القميئة والمدمرة لأنها دمرت لبنان وستعمل على تدمير العراق"، فوق الدستور والاستمرار بما يسمى " عراق المكونات" على حساب عراق المواطنة التي تتحقق فيها المساواة بين المواطنين.
وما أن نقر بحتمية " مفهوم المكونات" فهذا يعني أنه لا خلاص من صيغة " المحاصصة" فلكل مكون مطالب وحصص في الكعكة السياسية. فالجميع، بموجب ذلك، يريد حصة في المشاركة في الحكم والحكومة سواء فاز أو خسر بالانتخابات، التي يسميها " استحقاقه الانتخابي"، ولا ينقصنا من التجربة المرة اللبنانية سوى " الثلث المعطل" الذي يشل البلد.
لفهم هذه المتاهة السياسية العراقية ينبغي العودة قليلاً إلى الوراء للطلاع على خلفية المشهد السياسي. أولاً تجدر إلى ما قبل 2003 وسقوط النظام الصدامي السابق.
كان هناك نظام ديكتاتوري حديدي يحكمه رجل واحد هو صدام حسين، وإن كان ذلك باسم حزب فاشي هو حزب البعث العربي الاشتراكي، الشبيه بالحزب النازي، وكان يحكم بالحديد والنار والعنف والبطش والقسوة والوحشية، ويقمع ويقتل ويصفي معارضيه سواء خارج حزب أو داخله. وكانت المعارضة تتكون من أحزاب قديمة يسارية ويمينة وليبرالية، مدنية ودينية، تتواجد أغلبها في خارج العراق وترعاها دول ومخابرات وأنظمة، وكلها تنادي بإطاحة نظام صدام حسين وتدعو لتأسيس ديموقراطية سياسية وعهد جديد بديل للدكتاتورية والقمع ومصادرة الحريات، طبعاً كان ذلك على الورق ونظرياً فقط. أما في داخل العراق فكان هناك خلايا نائمة لبعض الأحزاب العريقة والقديمة كالحزب الشيوعي، وحزب البعث جناح سوريا المعارض لبعث صدام حسين والمتحالف مع البعث السوري، وحزب الدعوة. وحده التيار الصدري بزعامة المرجع محمد محمد صادق الصدر هو النشط على الساحة الداخلية ولديه قاعدة جماهيرية كبيرة.
وكان الإسلام السياسي مشتتاً وموزعاً بين العواصم بكل تسمياته وهو بمجمله متحالف ومتعاون مع إيران ومرجعيته إيرانية على العموم، لذلك كان يشكك في شرعية التيار الصدري المعارض أيضاً لنظام صدام ولكن بطريقته الخاصة، ويطعن في مصداقيته ويتهمه بالعمالة للنظام لكونه يعمل في الداخل العراقي تحت أنظار ورقابة النظام الصدامي ومخابراته وينسق معها أحياناً، إذا اقتضت الضرورة ذلك، ويعلن استقلاليته عن إيران.
فالتيار الصدري جماهيري شعبوي وثوري ويتبع شخصية كارزمية دينية مقدسة لديه هي شخصية القائد محمد محمد صادق الصدر، والذي ورثه في القيادة بعد اغتياله على يد مخابرات النظام السابق، ولده الشاب مقتدى الصدر، بينما احزاب الإسلامي السياسي الأخرى حزبوية وتنظيمية منضبطة وهرمية لديها عدة قيادات دينية ومدنية، وتختلف بالرؤية السياسية والمنهجية اللازمة لقيادة البلد. قيادات الإسلام السياسي الشيعية التقليدية لا تعترف بزعامة مقتدى الصدر وإن جاملته وتعتبره زعيم طائش ولا يفقه في السياسة شيئاً ومتسرع ومزاجي ومتقلب، وقد أعلنوا ذلك مراراً وتكراراً في جلسات خاصة أو عبر وسائل الإعلام. سقط النظام الصدامي على يد الأمريكان حلفاؤهم وظهرت للسطح نفس المعادلة التنافسية والشك المتبادل وفقدان الثقة، وربما النزعة الانتقامية، بين الإسلام السياسي الشيعي التقليدي وبين التيار الصدري وزعيمه الشاب، الذي لم يتردد في تصفية أول خصم له وهو عبد المجيد الخوئي نجل المرجع الأعلى السابق السيد أبو القاسم الخوئي. اختار الأمريكيون جماعات الإسلامي السياسي الشيعي وسلموهم السلطة في العراق وتعمدوا تهميش مقتدى الصدر وتياره بعد أن تعاونوا معه قبل السقوط بقليل، فرد عليهم بتشكيل ميليشيات جيش المهدي وإعلان المقاومة المسلحة " ضد الاحتلال الأمريكي:
بل وتعاون مع تنظيمات إرهابية سنية متطرفة ومتشددة دينياً كالقاعدة في شن الهجمات على القوات الأمريكية والأجنبية الأخرى المحتلة للعراق. لم يشارك التيار الصدري في العملية السياسية قبل 2008، وتعرض لهجمة عسكرية شرسة لتصفية جيش المهدي من قبل رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي وبالتعاون مع القوات الأمريكية من خلال حملة عسكرية سميت بصولة الفرسان مما ولد في نفس الزعيم الشاب للتيار الصدري جرحاً لم يندمل بعد وكراهية شخصية تجاه نوري المالكي. بعد ذلك التاريخ دخل التيار الصدري معمعة السياسة والمشاركة بالعملية السياسية كما شارك بعمليات الفساد المستشري في جسم الدولة العراقية ومؤسساتها، لكنه ظل معادياً وكارهاً لنوري المالكي ، رغم مساهمته في تمديد ولايته الثانية كرئيس للوزراء ولكن بضغط إيراني واضح مارسه الجنرال قاسم سليماني وذراعه اليمين في العراق أبو مهدي المهندس مؤسس حزب الله العراقي، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، لكنه في الحقيقة هو القائد الحقيقي لهذه التشكيلة العسكرية الميليشياوية ، رغم دورها الإيجابي في محاربة تنظيم داعش الإرهابي وإسقاطه وتحرير المناطق التي كانت تحت سلطته وعلى رأسها الموصل ولأنبار ومناطق واسعة من شمال العراق، كانت هناك ، وما تزال، تشكيلات عسكرية وفصائل مسلحة بتسميات متعددة انشقت عن التيار الصدري وجيش المهدي وأسست تنظيمات مسلحة مستقلة عنه وبعضها بتشجيع ودعم من نوري المالكي ، مثل عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي الذي كان مقرباً لمقتدى الصدر وأحد خدمه يقدم الشاي لضيوفه، والتي سماها مقتدى الصدر الميليشيات الوقحة، إلى جانب العديد من الشخصيات التي كانت تحت إمرة مقتدى الصدر وتنظيمه المسلح، التي انسلخت من التيار وانضوت تحت خيمة الحشد الشعبي، وبعضها باسم فصائل المقاومة العراقية ، مما اثار حنق وحفيظة مقتدى الصدر وغضبه. والجدير ذكره أن أغلب هذه التنظيمات المسلحة الميليشياوية أسست واجهات سياسية وشاركت في الانتخابات ما قبل الأخيرة سنة 2018 وحصلت على مقاعد برلمانية وامتيازات مالية وسياسية كثيرة بفضل عمليات التزوير ومقاطعة 80 بالمائة من الشعب العراقي لتلك الانتخابات. في تشرين أكتوبر 2019 خرجت تظاهرات احتجاجية عارمة قامت بشبه ثورة جماهيرية شعبية تطالب بحقوقها الشرعية واستعادة الوطن المختطف ، اصطف معها التيار الصدري في البداية، وانقلب عليها فيما بعد، وحاربتها الميليشيات المسلحة الموالية لإيران بتوجيه وتنسيق وأوامر كانت تصدرها إيران خوفاً من تفاقمها وانعكاسها على الداخل الإيراني وتحجيم النفوذ الإيراني في العراق وكان يقود ذلك التصدي العنيف في الداخل العراقي من سمي بالطرف الثالث، وهم الميليشيات الولائية ، وكان لقاسم سليماني وأبو مهندي المهندس دوراً كبيراً كما أظهر ذلك فيلم وثائقي بمناسبة مقتل سليماني بثته قناة الميادين الموالية لإيران، وقد تسببت تدخلات الفئات المسلحة الولائية باستشهاد أكثر من 900 شهيد وجرح وتشوه الآلاف من المدنيين أغلبهم من الشباب كما تم خطف وقتل واغتيال العشرات من الناشطين المدنيين على يد تلك الميليشيات وزعمائها الموجودين في العملية السياسية والمسيطرين على قوى الدولة المسلحة في الجيش والشرطة والأمن والمخابرات عن طريق دمج عناصرهم برتب مختلفة في هذه المؤسسات العسكرية والأمنية. وبضغط الجماهير المنتفضة وتدخل المرجعية الدينية في النجف تمت إقالة حكومة عادل عبد المهدي وتنصيب مصطفى الكاظمي كمرشح تسوية توافقي لتشكيل حكومة مؤقتة مهمتها الإعداد لانتخابات تشريعية مسبقة وتشريع قانون انتخابي جديد وتحقيق بعض الإنجازات البسيطة لذر الرماد في العيون.
لقد تمت الانتخابات بالفعل قبل ثلاثة وبنجاح وبنسبة لا بأس بها من الشفافية والنزاهة أدت إلى خسارة أغلب التنظيمات السياسية الشيعية لمقاعدها البرلمانية، بما فيها تلك التي تمتلك أذرع مسلحة والتي انضوت تحت خيمة ما يسمى اليوم بالإطار التنسيقي، كدولة القانون برئاسة نوري المالكي وفتح برئاسة رئيس منظمة بدر المسلحة هادي العامري، و التي كانت في السابق تابعة للمجلس الأعلى بقيادة محمد باقر الحكيم ومن ثم بقيادة شقيقه عبد العزيز الحكيم ، ثم انقلب على المجلس الأعلى نجل عبد العزيز عمار الحكيم واستولى على كل ممتلكاتها ومقراتها ومؤسساتها وأسس كتلة جديدة تحت اسم تيار الحكمة ، الذي لم يحد سوى مقعدين في الانتخابات الأخيرة ، وهو عضو في الإطار التنسيقي أيضاً إلى جانب كتلة صادقون الواجهة السياسية لتنظيم عصائب أهل الحق الولائي التابع لإيران، بقيادة قيس الخزعلي وتنظيمات أخرى كحزب الله والنجباء وتحالف العقد، وتحالف تصميم، وبابليون، وتحالف الحكيم والعبادي.
يعيش المشهد السياسي العراقي حالة من الترقب والخوف والقلق إثر تفاقم تجاذبات سياسية لا متناهية، وتصعيد في لغة التهديدات المتبادلة إثر المشادات والفوضى التي سادت جلسة البرلمان الأولى التي عقدت بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات التشريعية المبكرة خاصة إثر مبادرة الإطار التنسيقي بأخذ خصمه الصدري على حين غرة، بتقديمه لائحة بأسماء 88 نائباً مع توقيعاتهم، يعتقد أنها مزورة، لفرض الأمر الواقع وتسجيل الإطار باعتباره الكتلة الأكبر في أول جلسة للبرلمان المنتخب، وبالتواطؤ المفضوح مع رئيس السن محمود المشهداني عضو تحالف العزم المنشق عن خميس الخنجر زعيمه الحقيقي ، وفي مسرحية مفضوحة مهلهلة الإخراج . والجدير بالذكر إن وائل الركابي القيادي في الائتلاف بزعامة نوري المالكي أعلن في تصريح له إن الرسالة التي بعثها الاطار للتيار الصدري للذهاب ليلتحق به لتشكيل الكتلة الأكبر باءت بالفشل. وقد أضاف الركابي في تصريحه انه في حال عدم التوصل الى اتفاق بين الإطار والتيار وإصرار الأخير على حكومة الأغلبية الوطنية وإقصاء الإطار التنسيقي فان هذا الأخير سيعلن نفسه ككتلة اكبر لتقاربه مع القوى السياسية الأخرى "الأمر الذي زاد من تعقيد المشهد وغموضه، ما دفع الصدريون إلى منع المشهداني من رفع الجلسة للتداول بذريعة التحقق من صحة التواقيع وتم إخراجه من الجلسة بعد إدعائه أنه تعرض للضرب ، وكان عاقداً العزم على ترشيح نفسه لرئاسة البرلمان بالاتفاق مع الإطار التنسيقي و 14 نائباً من كتلته العزم لقطع الطريق على إعادة انتخاب الحلبوسي، والحال أنه لايحق له سوى افتتاح الجلسة وإداء القسم الدستوري وفتح باب الترشيح لرئاسة البرلمان، ولما فشلت هذه المناورة انسحب نواب الإطار التنسيقي من الجلسة ومعهم نواب الاتحاد الوطني الكوردستاني، لكنهم لم ينجحوا في كسر النصاب الدستوري. وهذه المناورات والأحداث غير الديموقراطية جعلت مصير الحكومة القادمة شبه مجهول.
وكرد فعل، أكد الإطار التنسيقي، عدم اعترافه بنتائج الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي، وعزمه على تقديم شكوى للمحكمة الاتحادية للطعن بشرعية الجلسة والعودة للمربع الأول وقد أعلن متحدث رسمي باسم الإطار التنسيقي أنه الإطار “سيتصدى لهذا التفرد اللامسوؤل في القرار السياسي وسيمنع أخذ البلد إلى المجهول”، وتحميل الكرد والسنة مسؤولية ذلك وفق بيان الإطار. جماعات الإطار التنسيقي ليسوا كتلة برلمانية بل وحتى ليسوا تحالفاً واضح المعالم بل مجرد تجمع لتنسيق المواقف والتحركات، كما أشار إلى ذلك الخبير القانوني طارق حرب، فهم ورغم خسارتهم الكبيرة بالانتخابات، أرادوا إعادة الكرة في بسط سيطرتهم على البلاد ومقدراتها بقوة السلاح والارتهان من جديد لإيران التي تخلت عنهم كما هو ظاهر حيث هنأت رسميا الحلبوسي على انتخابه رئيساً لبرلمان، وهذا الموقف الولائي الذيلي لا يصب في مصلحة العراق ولا يتفق مع مخرجات العملية الانتخابية الأخيرة، وإرادة غالبية العراقيين.
كان التيار الصدري منتبه للعبة الإطار ومناوراته الخفية، ووفق تفاهمات مسسبقة مع الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني وتحالف تقدم وحوالي نصف تحالف العزم المخلصين لخميس الخنجر ومنهم مشعان الجبوري تمكن من تحقيق أغلبية برلمانية مررت التصويت على رئاسة البرلمان لصالح محمد الحلبوسي رئيس تحالف تقدم ونائبيه الكوردي والشيعي حيث تم انتخاب الصدري حاكم الزاملي نائب أول لرئيس البرلمان وفرض الأمر الواقع وفق السياقات الدستورية وهو نفس التفاهم الذي قد يتحول إلى تحالف للكتلة الأكبر سيصوت لصالح مرشح الكورد لرئاسة الجمهورية ومرشح التيار الصدري لرئاسة الحكومة . الفصائل المسلحة المنضوية تحت راية الإطار التنسيقي مستنفرة ومتأهبة للمواجهة العسكرية وربما لتصفية مقتدى الصدر شخصياً باعتباره عقبة كأداء أمام مشاريعها ومخططاتها للاستئثار بالسلطة وخوفاً من سعيه كما صرح هو عدة مرات، لتجريدها من السلاح ومعاقبة المجرمين والخارجين على القانون فيها مهما كانت مقاماتهم ومواقعهم في العملية السياسية وتقديم الفاسدين للعدالة. وهذه نوايا تهدد وجودهم ونفوذهم وامتيازاتهم. فلقد سبق للصدر أن صرح ونشر وغرد بصريح العبارة إن مايقوم به يعبر عن "إرادة الشعب هي (حكومة أغلبية وطنية) وأن أي ضغوطات خارجية لن تثنينا عن ذلك وأي تهديدات ستزيدنا (تصميما) و(تقدما) و(عزما) نحو (ديمقراطية) عراقية أصيلة حرة ونزيهة.. لذا فعليهم أن يعوا أن قوة (المذهب) من قوة العراق ومن قوة طوائفه وأعراقه. وهو تصريح علني للتحالفات التي أجراها بعد التصديق على نتائج الانتخابات من قبل المحكمة الاتحادية العليا لتحقيق الكتلة البرلمانية الأكبر بالتحالف مع تقدم بزعامة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي (37 مقعدا) وتحالف عزم بقياد خميس الخنجر (14 مقعدا) والحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود بارزاني (31 مقعد) اضافة الى ائتلاف تصميم بزعامة محافظ البصرة أسعد العيداني (5 مقاعد) من مقاعد البرلمان البالغ عددها 329 مقعدا ومع اضافة 73 مقعدا حصل عليها التيار الصدري وبعض المستقلين وصلت إلى 200 مقعد ولا يحتاج حتى لمقعد واحد من الإطار التنسيقي الذي على بعض مكوناته الخروج من الإطار والالتحاق بأغلبية الصدر البرلمانية للبقاء في العملية السياسية وإنقاذ أنفسهم والتخلي عن كتلة دولة القانون التي تتزعم الإطار التنسيقي الذي لم يبق أمامه سوى الذهاب للمعارضة البرلمانية مرغماً .
يتعين على الحكومة الشرعية القادمة إعادة الاعتبار لهيبة الدولة ومؤسساتها الشرعية والأمنية والعسكرية ووقف إقحام السلاح في اللعبة السياسية، واستشراء وتغول منظومات التحزب الميليشياوية، التي يجب عليها تجريدها من أسلحتها، لأنها أوصلت البلاد لطريق مسدودة كادت أن تودي بالبلاد نحو مهاوي الإفلاس والدمار والاقتتال الداخلي والانقسام الطائفي والعرقي.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال