عندما التف حبْل المشّنقة حوّل رقبة ديكتاتور العراق السابق، وتطايرت الهتافات والّلعنات في ارجاء المكان الذي شيّده هو للتخلص من معارضيه، كانت هناك رغبة دفينة عند بعض مَن حضروا المشهد في الحصول على ذلك الحبْل، حتى لو كان "نجسا" وملطخا بالدماء. فالنفوس الغاصة بالحزن والثأر تسعى إلى امتلاك وسائل وتَبنّي رموز تعبر عن سخطها وغضبها، وليس لديها الوقت للتفكير في احترام عدوّها، وتجنب الإساءة لرجلٍ ذاهب للموت.
بالطبع للقارئ ان يقدّر التأثير الذي مارسته نزعة الانتقام على الجمهور الغاضب، وكم حوى "الحبْل" من مهيّجات للعنف، غالبا ما تكون معدية في أمكنة مغلقة شُيّدت خصيصا للقتل والتعذيب. ولكن الهياج الذي ساد قاعة الإعدام، من على الكراسي التي صُفت على عجل، كان على علاقة بيّنة بالمقدس، تجلى في الهتافات باسم السيد "الصدر" وفي تكرار الصلعمة وفي ذكر أسماء الضحايا. على الجهة الأخرى نرى الديكتاتور غالبا ما يحمل قرآنه بيمينه، بعد ان كان يحمل بندقيته، يحاول جاهدا قراءة ما حفظ من آيات الاستغفار عن الفظائع التي ارهقت كاهله، والتطهر من الدماء التي أراقها في طول البلاد وعرضها. اختلاف المواقع هذا، بين الديكتاتور وضحايّاه، ممسوك بخيط دينيّ رفيع يلطّف العنف ويبرره بالحديث عن عنف خيّر وعنف شر، وأن الأول يُمارس لأبعاد خطر الثاني، وذلك للتهوين من حقيقة ان العنف هو العنف، وأن أيّا مَنْ يمارسه لا ينجو منه. لنتأمل المشهد مرة أخرى؛ في القاعةِ رجل وحيد مقيّد قرب حبْل المشنقة، والجلادين من حوّله، اصطف قدامه جمهور مختنق بالأحزان والذكريات يجهر باللعنات والهتافات والنظرات المتشفية. مشهد تحيلنا تفاصيله إلى ثقافات بدائيّة عن عمليات رجم وتعازيم جماعيّة كنّا نقرا عنها في الكتب، حتى اننا لا ندري كيف تمت السيطرة على الجمهور الغاضب داخل القاعة المغلقة؟ وما الذي حال بينهم وبين الهجوم على المشنوق وتقطيعه لأشفاء غليلهم؟ ولذلك نستطيع التخمين ان تنظيم العنف داخل القاعة لم يكن سهلا، صنع ذلك رغبة تقطيع الحبل وتقاسمه، أبدالا لرمز تقطيع جسد الديكتاتور.
صحيح ان "القضاء" أصدر قراره بإعدام طاغية يحمل شرورا يصعب عدّها، منحت العراق أربعة عقود من القتل والتدمير والتهجير، ولكن على الأرض حدثت مظاهر قتل جماعيّ للرجل، خلا من الحرمة والاحترام لكل الأعراف والتقاليد، أرادوا فيها قتله معنويّا وإنسانيّا قبل ان يقتله حبْل المشنقة، أرادوا قتله ليحلوا مكانه.
الأمر الذي وضعهم في موقف يستحيل معه الاثبات أيهما أكثر قسوة، الطاغية أم الضحيّة، بدا فيها الثاني صورة كاركتوريّة للأول. ولو كانت تفاصيل عملية الاعدام مخفيّة، كما هو حاصل عادة في الدول ومؤسّساتها القانونيّة، لكانت أكثر سترا للهمجيّة التي عُومل بها الرجل. ولذلك ليس مصادفة ان تهيمن يومها حادثة الاعدام على احداثٍ كثيرة، وتزيد من اختلال التوازن الحاصل بالبلد اصلا. لأن العملية نُفذت برأس الحكومة العراقيّة، في صباح عيد مقدس عند المسلمين، ومن نافل القول أن أي إنسان يُقتل في يوم عيد يسطع بالفرح ولعب الاطفال سيكون مؤلما للجميع، أصدقاء وغير اصدقاء، عراقيّين وغير عراقيّين.
رؤية عملية الشنق عن قرب لا تسر احدا، وبالتالي فإن الذين شهدوا التأرجح الأخير للديكتاتور ببدلته السوداء سوف لن ينسوه بسهولة، حتى لو عدّه البعض منهم بطولة وامتيازا خاصا سيخدمهم في قادم الأيام. الكثير مِن الذين شهدوا ذاك التأرجح سبق لهم ان تعرضوا لمعاناة واختبارات وعذابات، في أيام الديكتاتور، حوّلت حياتهم الشخصيّة والعائليّة إلى جحيم حقيقي، ولذلك هم أصحاب حق لا جدال فيه، إلا ان ارتباط الحق بالانتقام هو الذي أضعف موقفهم، ودفعهم لطرح الحلول الخطأ، وسط هيجان طائفي، جعلهم لا يرون القسوة في حلولهم، ولا يفهمون ان بلوغ العدالة بهذا الطريقة الفجة ما هي إلاّ وسيلة أخرى للعنف المستقبلي، وسيلة تخلّصهم من الديكتاتور دون ان تخلّصهم من لعنته. فكلما طال أمد الخلاف، ووجه العنف بالعنف، لا محالة سيستلف أحدهما أدوات الآخر، وسينحسر تدريجيا الفارق بينهما، قد تكون الضحية أحيانا أكثر قسوة من جلادها. في هذه المعادلة المأساوية بدا "الحبْل" هو وصل العلاقة بين الديكتاتور وبين ضحاياه، يضمر تشابههما وتناوبهما، في نزاعٍ لا ينتهي، حفاظا على الحبْل. صراع سيدفع الشارع العراقيّ ثمنه، وستبقى شاخصة علامات الاستفهام خلف العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ لماذا تُغلق صفحة عنف وتُفتح صفحة عنف أخرى أكثر سوداوية تشوه ابتسامة المواطن وتهدد مستقبل اطفاله وتربك مواسم زراعته؟ هل هو فقط الكرسيّ والنفوذ؟ هل هو فقط الحزن المتفشي في حياة العراقيّين اليوميّة؟ هل هو ديمومة ثقافيّة-اجتماعيّة غاطسة في تاريخ البلد؟ هل هو.. هل هو؟
إنّ فكرة تقاسم واقتناء الحبْل، القادمة من أعماق مظلمة، سيجري تبريرها بعناوين العدالة والحقوق والنضال، أو تأويلها بشروحات التاريخ القديم واحداثه وشخوصه، ولكن هذا لا يخفي كلّياً غرائز الثأر والانتقام المترسبة في نفوس الضحايّا، بعد ان طال قمعها ووجدت بعد سقوط الطاغية مجال افلاتها. فكرة اقتناء "الحبْل" قد تكون وسيلة للتعبير عن موقف يضيف لتاريخ صاحبه وموقعه، أو ان اقتنائه ينوب عن رجل لم يستطيعوا الوصول إليه في يوم ما، ولكن المتعارف عليه هو ان "حبْل" الشنق بطبيعته يثير الاشمئزاز، وأن اقتنائه والاحتفاظ به مع الأغراض الشخصية يحمل كمية رعب مبالغ فيها، لا تنتجه سوى مخيّلة ركنت على جنب نعمة العقل. ونزيد على ذلك بالقول ان مخلفات عملية الإعدام لا تغري أحدا، حتى أولئك القائمين عليها، من جلادين وموظفين، لأنهم سيحتاجون إلى أماكن تخزين بوسع الصراعات المتجدّدة بالبلد.
ولذلك نرى، على الأغلب الأعم، ان الذين حضروا عملية شنق الديكتاتور هم من النمط الذي يكره الحبْل ويرغب به. بسبب معاناتهم من جهة، ومن جهة أخرى بسبب ما للحبْل من حكايات مؤلمة في ذاكرة العراقيّين، تُعاد روايتها في الأزمات والشدائد، إلى حدٍ تُنسى فيها وظائف الحبْل في الحياة اليوميّة، وتبقى حكايات الشنق والسحل هي الماثلة في الذاكرة الاجتماعيّة. إن فكرة تقاسم "الحبْل" تسوية لم تدم طويلا، فلقد كان المؤمل من اقتصاص الضحايّا من الديكتاتور التحرر من لعنته وتهدئة النفوس والحيلولة دون الانزلاق لما هو أسوء، تمهيدا لفتح صفحة جديدة في العمل والبناء.
ولكن يبدو ان الضحايّا لم يتعظوا ولم يضعوا ببالهم الأسباب التي أوصلت الديكتاتور الى حبْل المشنقة، ولذلك ما ان عادوا إلى أحزابهم حتى تقاتلوا وتكافروا، ابتلعتهم دوامات عنف طائفيّة وقبليّة وسياسيّة، صاروا فيها جلادين وضحايّا في ذات الوقت، الأمر الذي أدى إلى ترحّم العراقيّين على أيام الديكتاتور السابق رغم بغضهم وكرههم له. فهل نجح ديكتاتور العراق في استدراج ضحاياه واخراج اسوء ما في نفوسهم، ودفعهم صوب دائرة عنف جديدة، أكثر حدّة ورداءة وبدائيّة؟
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال