وجد مفهوم تحديد الوقت من خلال مقاييس، مثل الساعة، واليوم، والشهر، والسنة، منذ شرع الإنسان، في بداية تشكل بشائر منجزه الحضاري، وفي بداية وعيه ذاته وتفرّده، ووعيه قلقله الوجودي الدائم، وحجم تأثير انفعالاته على طبيعة حياته، في محاولةٍ بائسةٍ منه لفهم الزمن وفهم عبوره الحقيقي/ الوهمي/ المطلق، والسيطرة عليه من خلال ربطه مع الظواهر الطبيعة المتكرّرة، وتطويعها مثيولوجيا تعيد في الإنسان ثقته بقدرته على صنع الأمل وعلى رشوة المستقبل بالأعياد والقرابين.
وحدهم الفلسطينيون، هنود القرن العشرين الحمر، لا يزالون في كل رأس سنةٍ يدفعون فاتورة البلاد التي توغل فيهم تاريخا وعشقا وقهرا وموتا
هكذا، وفي محاولاتٍ أخرى، اخترع الإنسان مفهوم العيد، كي يصنع من هذا الوحش حالة فرحٍ مصطنعة، تتكرّر وتعيد ذاتها ضمن دوريةٍ مرتبطةٍ بالتقسيم الذي اخترعه للزمن، حالة فرح تعطي للحياة بهاراتها الناقصة، وتعطي للإنسان سببا لتحمّلها، ولتحمل إحباطاته وخيباته، وتعيده إلى الطفولة دائما، كأنه يقنع نفسه دائما بانتصاراتٍ مؤجّلةٍ، فهو إن لم يكن قادرا عليها، فعلى الأقل هو قادرٌ على صناعة ضحكة وحلم لطفلٍ لا يزال يلثغ. هكذا اعتاد العالم أن يشتري الأمل، وأن يدفع الكثير من تعبه مقابل تجديد أحلامٍ انتهت مدّة صلاحيتها، فصنع للسنة رأسا تطلّ بها على حياتنا، وجعل هذه اللحظة عيدا، وجعلنا نعتاد أن نستقبلها بكثير من الرقص والابتهاج، بالحب والألفة، بطعام شهيٍّ نحرم أنفسنا منه أيامًا كثيرة، كي نعتقد أننا نرضي هذه القادمة الجديدة، علّها تترك لنا بعضا من آمالنا على طاولة أيامنا قبل أن ترحل، وبتوقعاتٍ منفصلةٍ عن ماضينا، وكأننا نحتفي بالمعجزة وبالخرافة التي نرفضها طوال أيام السنة الباقية.
هكذا صنع العالم فكرة بابا نويل، الرجل الذي يأتي مع العيد، والذي يحمل للأطفال الفرح، والخرافة المحببة، والخيال، في محاولة من الإنسان، سيد هذا العالم/ وعبده الشقي، في أن يجعل برد كانون الأول دافئا بأنفاس الأطفال وهم يمضون أيامهم بانتظار الهدية تحت شجرة علّقت عليها الألوان والنجوم. وهكذا من المفترض تبعا لكل تلك المحاولات أن ينتظر العالم، كل العالم، عيد رأس السنة تلك التي تطلّ بعيونها الخضراء وبشعرها الأشقر الطويل. لكن من يسكنون الخيام، وحدهم، يعرفون أنه لا رأس للسنة المقبلة، وأن لها ألف ذيل، فوحدهم الفلسطينيون والسوريون والعراقيون واللبنانيون واليمنيون الخارجون عن هذا الكوكب، والذين ارتكبوا أحلاما عالية بالحرية، فعاقبهم العالم، كل العالم، على جرمهم الذي لا يُحتمل، لم يعودوا قادرين على فعل الانتظار، وصاروا عاجزين تماما عن فعل الأمل. وصاروا يعرفون أن رأس السنة يطلّ عليهم بشبح البرد والغرق في وحل هذا العالم، ويعرفون أنه رأسٌ يطل ليقلق أطفالهم النائمين مع مرضهم وسعالهم الذي يهزّ الكرة الأرضية.
منذ أكثر من عشر سنوات والأمهات السوريات يعددن عشاء رأس السنة لأسماء رحلت، بقيت معلقةً في قلوبهن
وحدهم الفلسطينيون، هنود القرن العشرين الحمر، لا يزالون في كل رأس سنةٍ يدفعون فاتورة البلاد التي توغل فيهم تاريخا وعشقا وقهرا وموتا، كأنهم حملة الصليب الذي لا ينتهي ولا يتوقف، وهم المصلوبون منذ مائة عام، لا يموتون، لا يقومون، ولا أحد يحتفي بدروب آلامهم المجلّلة، وحدَهم أطفال غزّة الذين رحلوا في هذا العام، وحدهم يحقّ لهم أن يقولوا لهذا العالم البائس: كل عام وأنت بخير. ووحدهم السوريون الذين أصيبوا بوباء الحرية، السوريون الذين تجرأوا على الهتاف، الذين حملوا أرواحهم على أصابعهم وذهبوا بها إلى الشوارع والساحات، الذين كسرهم العالم كقطعة حطبٍ شهيةٍ لمواقده، وحدهم من جفّفهم بعناية وحرقهم يابسين. ووحدهم الذين يكسرون الآن، في مخيمات الشمال السوري، في مخيمات الموت السوري الممتد على الجغرافيا والتاريخ، في مخيمات الموت السوري العابر للحدود، ومع العاصفة القطبية المرعب. وحدهم يحطّمون كل نظريات العالم عن مفهوم الزمن. وحدهم يعدّون الوقت بعدد الموتى بردا، ويقسمون السنوات على عدد الضحايا، وعدد الذين لم يزالوا معلقين على حافّة الموت. ووحدهم يحقّ لهم أن يقولوا لكل عواصم العالم المدجّجة بالزينة والأضواء وبشهوة الاحتفال: كل عام وأنتم بألف خير، فمنذ أكثر من عشر سنوات، عشرة أعياد، وبابا نويل يمرّ من أمام بيوتهم حاملا على ظهره أطفالهم الباردين، الهادئين، الميتين، ويمضي بهم مع كل الهدايا، مع كل الأحلام وكل الأنفاس، والملابس المعلقة في خزائنهم، إلى المقبرة، منذ أكثر من عشر سنوات والأمهات السوريات يعددن عشاء رأس السنة لأسماء رحلت، لكنها بقيت معلقةً في قلوبهن، ولأرواح تحوّلت إلى صور تسند جدرانهن من الانهيار.
مائة سنة، مائة عيد رأس سنة والأمهات الفلسطينيات لا يزلن واقفاتٍ على أبواب بيوتهن ينتظرن أولادهن الذين توزّعوا إلى كل منافي الله الضيقة، ولا زلن يجهزهن لهم الهدايا ويتركون تحت شجر الميلاد مفاتح البيوت التي تبكي كل سنة وحيدة وباردة. ووحدهن أمهات المعتقلين السوريين، وزوجاتهم، ينتظرن في رأس السنة السوداء رجالهن الذين تموت الحياة هناك معهم تحت التعذيب. ربما يعرفن أنهم لن يعودوا، لكنهن ينتظرن، فالكراسي الفارغة تملأ طاولة العيد، والبيوت الفارغة تملأ المدن، والمدن الفارغة تملأ البلاد، والبلاد تنزح مع الراحلين، وتصل إلى المخيمات مدمية الكاحل والروح، وتعبر البحر الذي لا يزال يشكو للشواطئ الغريبة ملح دموع غرقاه، وملح المناديل التي بقيت هناك، البحر المتوسط الذي لا يزال يضرب رأسه بصخور شواطئه، ويقول لها: الطفل الذي غرق كان يصرخ: يا أمي، لو ربطني بحبل إليك، يا أمي. ووحدهم الشهداء، في كل زمان ومكان، ينتظرون السنة المقبلة كي تكمل موتها ثم تأتي إليهم مكفنةً بالأحلام الممزّقة. وحدهم يسخرون منها، يسخرون من مراهقتها، من أضوائها، من فرط زينتها، ومن مكياجها السخيف، ويقيمون في قبورهم احتفالهم الخاص، وقد اكتشفوا أنه لا رأس لهذه السنة، فوحدهم من وجد رأس السنة المقطوع، وراحوا يركلونه بينهم، من بغداد إلى دمشق إلى القدس، إلى غزّة، ويحقّ لهم أن يقولوا لنا، أينما وكيفما كنا: كل عام وأنتم بخير.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال