كثير ممن يراقب مجريات اليمن لا يفقه كثيرا طبيعة الصراع الجاري ولفهم ذلك لابد من العودة الى مسارين:
الاول: بنية الحالة الثورية التي اسس لها ربيع اليمن
وثانيا: واقع سقوط صنعاء في براثن حركة اصولية طائفية
اندفعت القوى المناهضة للنظام من داخله وخارجه بكل ممكناتها مسنودة بموجة عربية ودولية تتبنى التغيير الثوري وتمكن النظام وقواه من بناء كتلة صلبة لحماية نفسه ووصل الامر الى افق مسدود اما التوافق او الوصول الى فوضى شاملة الجميع فيها خاسر..
وما مكن النظام وقوى المجتمع الرافضة للانفعالات الثورية ان قوى الثورة لم يتمكنوا حتى من بناء بنية تحتية لفكرة ثورة كل ما في الامر شعارات واحتجاجات صاخبة في مربعات محاصرة وعواطف جياشة غاضبة وحاسمة بلا مشروع ..
وظلت الثورة عبارة عن ضجيج وتكتلات مغلقة في ساحات محاصرة من المجتمع ومن فاعلية مراكز الثقل لمؤسسات الدولة وانتهت كخطاب مراهن على التهديد بتخريب كل شيء ان لم يتم الاستجابة لمطالبها بالتمكين وتصفية كل خصم لا يؤمن بمساراتها ويقبل كافة دعاواها وانتهت عمليا بالخطاب الاعلامي الذي انتجته احزاب المعارضة ومناصريها وكان هزيلا افسد العقل وتاه في نزعة اعلامية فاشية ومن رحمه ربي من المثقفين وحاول كشف المصائب وغادر مربع الكذب وتزوير وعي الناس ناله اللعن والشتم والاتهام والتحقير..
ولم تتمكن القوى التي شكلتها الساحات الثورية من بناء ارادة جمعية متحررة من تحكم مراكز القوى وتم اختراقها من كافة الطامحين الباحثين عن تغيير يعيد تركيز القوة بايديهم دون غيرهم وانتجت الساحات شبكات متناقضة ومعقدة ولكل مشروعه الخاص به من الاخوان الى الحوثية الى الحراك الجنوبي الى مراكز القوى المتعددة سياسية كانت او اقتصادية مناطقية كانت او مذهبية
وظلت المشاريع مشتتة وتائهة في طوبى مبنية على فراغ ولا مشروع جامع لها رغم التنظيرات التي كانت تسعى بكل ممكناتها لاخفاء البنية الهشة والتناقضات الجذرية والعجز عن بناء الارادة الجامعة والمشروع الذي يستجيب للمجموع الوطني..
وكانت النتيجة ان عمقت الساحات وخطابها من الانقسام مثلها مثل انصار النظام وكل يوم كانت تؤسس لحقد وكراهية متبادلة ومع سلوكيات الفوضى كان الجميع يؤسس لحرب اهلية..
تحول الشباب الى ظاهرة صوتية تقدم بين الحين والآخر ذبائح مجانية تخدم صراع مراكز القوى المالكة للسلاح والمال وتخدم القوى الخفية التي تدار من الخارج او من نزعات الصراعات الداخلية المتراكمة..
والمشكلة ان الانتقال الى المستقبل اصبح شعارا كاذبا ومخادعا ودجل مركب يرفع كل شعار ممكن لتمرير الماضي بكافة صراعاته وتناقضاته لا مما جعل التجاوز صعبا وشبه مستحيل ولم تعدّ المشكلة في الماضي بل في تكرار الماضي القادم من عصور دويلات الطوائف وبطريقة اكثر غباءا مما كان عليه في زمنه وتكراره في القرن الواحد والعشرين وحجبه بشعاراته كان الكارثة الغير مرئية للكثير من المراقبين في الداخل والخارج والمنخرطين في الصراع..
وكانت النتيجة ان القوى الداخلية التي صدمها واقع الصراع ومخاوف الاقليم بالذات في الخليج استغلوا على اعادة بناء الصراع وتقويم مساراته وانتجوا مبادرة داخلية سميت خليجية ووافق عليها الخارج وبالتوافق المرعوب من المآلات ووقعوا عليها وبعد التوقيع تم رفضها من تحت الطاولة عبر اطرهم المهيمنة على الساحات والميكرفون وعبر اعلامهم الغوغائي باسم الثورة وانحاز مهامها وتحرك الاغلب ممن ارتبطوا بالربيع الممول من قطر ومن مسار السياسات الاوبامية وكذلك الحوثية كوكيل ايراني وكذلك البنى المتعددة في مسار صراعات الماضي والمتخوفين من تغيير منتظم في خريطة طريق واضحة لا يدرون الى اين ستقودهم!!
كانت المبادرة مشروع واضح والقوى التي ترفضها لا تملك مشروع إلا تكرار الاخطاء وهنا لا اتحدث عن الحوثي بالذات فله مشاريعه الخاصة مثله مثل غيرة وتم تجاهله لانه رفض الانخراط في مسار التغيير المنتظم وهناك قوى اخرى ايضا اعتقدت انها خارج اللعبة الجديدة في هذه الخريطة كبعض قوى الحراك الجنوبي التي ارتبطت سابقا بالايرانيين عبر الضاحية الجنوبية والتي تحولت جذريا ضد الحوثية لاحقا..
ولم نفهم دور رافضي المبادرة الخليجية الا لاحقا بعد سقوط صنعاء وهذا ما سنفسر لاحقا فاذا كان التغيير هو المطلوب فلماذا لم يتم تحويل المبادرة الخليجية إلى مشروع اجماع وطني ويتم تنفيذها بطريقة تنجز الاهداف لا التعامل معها كإداة مرحلية للقوى المتطرفة لادارة الصراع ومجال لتصفية الاخر كما هو حال الاخوان او التعامل معها كمرحلة اجبارية لاحداث انقلاب جذري لاحقا كما هو حال الحوثيك ..
ومشكلة المعارضة وبالذات الاخوان المسلمين أنهم خلقوا وعي جمعي ساذج غرائزي ومازالوا يستخدموه بخبث لافشال التغيير الذي ينتج دولة جامعة وسعوا من البداية مثلهم مثل الحوثية الى تحويل العقل الجمعي الغرائزي الباحث عن مستقبل جديد الى قوة مستعبدة بايديهم لادارة صراعات قاتلة وتصفوية تديرها مراكز القوى ودهاه من جحيم بلا فقه ولا ضمير..
كانت المبادرة ان كان الامر مرتبط بالمصالح الوطنية مسار واضح لتحقيق ثورة من خلال إعادة البناء ولكنهم جعلوها مسار لاعادة انتاج الفوضى وهذا ما اربك الخارج واليمن كمجتمع باحث عن خلاص..
وكان السؤال الذي حمله عقلاء الوطن لماذا لا تتحول المبادرة الى مشروع يحمله الجميع لانتاج التغيير والسؤال الاهم لماذا لم تتخلق كتلة مدنية جامعة ولماذا لم يتم الشعب على تحول القوى الشعبية خارج سياق الاحزاب الى قوة ضاغطة لاتمام التغيير ..
كان النظام الذي ارادوا اسقاطه منظومة الساحات الثورية المعقدة والمشتبه ومؤيديه يؤدون المبادرة ويحتفلون بها وكان لديهم قناعة ان بإمكانهم ان يتحولون الى قوة ايجابية لانجاز ثورة إعادة البناء وبحكم معرفتهم بتركيبة الحالة الثورية كانوا على قناعة ان مدعي الثورية سيتحولون الى قطعان في حدائق قوى بالية ستنهكها ثورة اعادة البناء وتجعل من القوى البالية التي هيمنة على الجمهورية قوة خاضعة لدولة قادمة يحكمها الشعب بآليات واضحة..
وكادت الجمهورية ان تمتلك قوتها العبقرية في اعادة بناء ذاتها لولاء غوغائية التنظير الثوري العامل في الفراغ والغارق في الماضي وارتباطاته بمسارات عابرة للحدود ايديولوجية او نفعية وللمرة الاول كان يمكن ان يتم التعامل مع هذا التحول بذكاء ما يجعل الجمهورية متحررة من قيودها الماضوية القاتلة التي اعاقت تحولاتها الا ان الاصوليات وقوى الماضي كانت لها بالمرصاد وفي المقدمة منها الحوثية وهذا ينقلنا الى ثانيا كيف سقطت عاصمة جمهورية الشعب وتمكن منها كاهن طوطم مشروعه استعباد الانسان باسم العرق او ما يسموه الآل..
مما سبق تتضح الصورة ان تناقضات القوى الجمهورية سهلت للحوثية ان تصبح ثورة مضادة مكتملة الاركان ليس ضد الربيع العربي في اليمن بل ضد الثورات التأسيسية التي شكلت جمهورية الشعب .. ولم يكن سقوط صنعاء الا المآل الطبيعي لحالة الانهيار الذي أحدثته حركة الاضطرابات الشاملة للمثاليات الثورية ..
ظلت صنعاء ومحيطها القبلي عصية في وجه التمرد الذي لايرى في صنعاء ومحيطها القبلي الا ملكية خاصة لقلة مختارة من الله بفعل وصايا نبوية واحكام إلهية بلغت ذروتها الاكثر تطرفا مع التفسيرات التي قدمها حسين الحوثي الذي أسس لحركة طلبانية شمولية يتزعمها قائد ملهم من السماء كما يعتقدون وطاعته المطلقة فرض واجب لا يمكن الخروج عنها وأي خروج ليس الا تحدي للإرادة الإلهية وكل فرد لا يؤمن بها كافرا وفي مآلاتها يصبح كل من خارج الجماعة كافر بالله .. وعقائدها التي صاغها الحوثي حسين ترى ان النصر لا يكون الا بوجود قائد من القلة المختارة التي ترتبط بيولوجيا بالنبي المؤسس للاسلام... هذا السقوط الكارثي لصنعاء عبر الحرب لم يكن له ان يحدث بلا خلخلة التضامن الوطني وزعزعت شرعية الدولة وشرعية الحكم والتدخلات المكثفة للفاعل الخارجي الذي مازال عاجزا عن فهم طبيعة الصراع وابعاد النزاع وتناقضات التاريخ وسكيولوجية التكوينات اليمنية .. صنعاء ليست صنعاء قبل خمسين عام ولم تعد هي صنعاء التي شكلها التاريخ قبل سقوط دولة الائمة هي مختلفة جدا ففيها تتجسد اليمن ومركزيتها في الوعي الجمهوري يجعل سقوطها بايدي الجحافل التي هي بفعل تركيبتها ليست قبلية ولا حزبية ولا منتظمة في مشروع ثوري حديث نتاج لفشل متراكم وانعكاس للانهيار، فان تسقط عاصمة دولة بايدي حركة اشبه بحركة طالبانية تحركها مقولات دينية طوطمية تدمج بين الاسطورة والدين وتوظف كل ممكنات العقل حتى بتجليه الحديث للبرهنة على احقية الطوطم بان يكون إله باسم الله ليس الا تجلي للضياع والانحطاط وهذه الوضعية حالة غريبة فرضتها حركة فوضى متوحشة لا يمكن ان تؤمن بفكرة الدولة الجامعة ولا بالحاكم ولا بالغير المخالف لها وافعالها وعقائدها تقسر الجميع على اتباع ما تحدد انه الصواب والكل أدوات لتنفيذ إرادة السيد بمعنى اجبار الجميع وقسرهم ليغدو جنودا بالقهر او بالطاعة للقائد الاول ورب المسيرة فهو صاحب الحق المفروض من السماء وليس مهما ان يكون حاكما مباشرا للدولة فهي اقل واوسخ من ان تستجيب لتعاليه فهو سيدها وإرادته قاضية على من يحكمها وهذه الحالة من فرض السيادة المطلقة تؤسس لطغيان مركب يجعل الجميع عبيد في حضرة كاهن متعالي هو ابن الله. سقوط صنعاء ليس الا التعبير الاعلى عن هزيمة الدولة وانحطاط المجتمع وانحدار الفكر وهبوطه الى وحل الجمود .. سقوط صنعاء ليس الا التعبير الاعلى عن هزيمة اليمني كل يمني بلا استثنا ومعركة النهوض لتجاوز هذه الحالة ليس سهلا وسيقودنا الى صراع مرير الا ان هذا الصراع هو الوقود المطلوب لبعث اليمن من قاع البرميل!!!
وكثير مما ورد سابقا بحاجة الى تفسيرات كثيرة لفهم المسألة اليمنية وساحاول ان اطرح ما عندي في مقالات قادمة لاني عشت تفاصيل التجربة منذ بداية التسعينيات وقارئ اما قبلها..
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال