من التقاليد المعمول بها سابقا، مساءلة الحكومة بعد مرور 100 يوم من العمل، ومساءلة مجلس الشعب، ومساءلة اللجان ..وهي تقاليد ترنو إلى تحفيز السياسيين على احترام الوعود وتثمين الزمن وإضفاء قيمة على العمل وتحقيق الإنجازات فضلا عن توضيح الصعوبات والعقبات التي أخّرت مسار التنفيذ، والمسائل إذ يوجّه الاستفسارات وينتقد ويعبّر عن استيائه أو استغرابه ويحاول أن يفهم ويحلّل ويستخلص الاستنتاجات التي تساعده على تقييم أداء من فوّض لهم مسؤولية الحكم والسهر على المصلحة العامّة كما أنّه يريد أن يثبت أنّه طرف فاعل لا سلبي، ومواطن نشط وملتزم ومسؤول.
ولئن حالت «محدودية» صلاحيات الرئيس سابقا دون مساءلته فإنّ امتلاك الرئيس «سعيّد» اليوم كلّ الصلاحيات وأوّلها سلطة اتّخاذ القرارات يجعله في موضع المساءلة. فمتى يفارق منطقة الغموض والتكتم واللبس و... ويفصح عن خطته ورؤيته لبنية العلاقات بين مختلف السلط والأحزاب والمنظمات ويكشف عن نظرته إلى الواقع وفهمه للأزمات وطرائق التغيير والإمكانات المتاحة ....؟ ومتى يكفّ عن مسرحة الفعل السياسي دراميا : المعارك اللامتناهية والصراعات التي تجعل الأخيار في مواجهة الأشرار، وتصنع البطل الخارق للعادة الذي يطلق «الصواريخ» فيدمّر الأعداء و»يخرجهم من التاريخ»؟
لاشكّ عندنا أنّ التونسي/ة يجد نفسه اليوم، في موقف لا يحسد عليه إذ أنّه بات غير قادر على اتّخاذ مواقف واضحة من الشخصيات والأحداث والأزمات وغيرها بل هو عاجز عن الإعلان عن تموقعه لأنّه ببساطة كالريشة تتلاعب به العواصف. فمرّة يكون مهلّلا مستبشرا برياح التغيير التي هبّت ذات 25 جويلية مزهوّا بهذا الحدث الجلل ومقتنعا بأنّ الغد سيكون أفضل ومرّة يكون ساخطا ومستغربا وغاضبا بسبب ما يعاينه من اعتداءات على الحريات وإجراءات مخالفة للمعهود وارتفاع للأسعار غير مسبوق وميزانية تخرج عن التوصيف. ومرّة يكون مؤمنا بالديمقراطية وما قامت عليه من مبادئ ومستمسكا بعرى المنظومة الحقوقية ومرّة يكون ناقما على الديمقراطية التي فرضتها عليها الدول الأجنبية «الله لا تربحها» ومقتنعا بأنّ حال البلاد لن يصلح إلاّ ب «قبضة عمر بن الخطاب» وأنّنا أمم لا تعمل ولا تنضبط إلاّ تحت السياط .
وليس تموقع التونسي/ة في منزلة بينيّة (بين بين) بل هو هو متقلّب الأحوال: النقيض ونقيضه في الآن نفسه فهو ضدّ سعيّد ومع «سعيّد، وهو مع الحقوق والحريات ولكنّه يريد استئصال الأعداء... وهو مع عبير موسي وضدّها لا يكاد يستقرّ على حال. وهو أمر راجع في تقديرنا إلى ضياع المحددات و«معالم الطريق» والمعايير والإطار العام الذي ينصهر فيه الفرد فضلا عن غياب نظام مستقّر يسمح له بتبيّن الحدود والمعايير والثوابت ويوفّر له مناخا ملائما يمكنّه من اختيار البوصلة التي قد تهديه وتنير دربه فيتبصّر. ويُضاف إلى كلّ ذلك مناخ يزداد فيه منسوب العنف ارتفاعا وينتشر فيه خطاب الكراهية وثقافة التباغض ...
ولا نحسب أنّ هذا المناخ العامّ سيؤهل التونسيين للتعبير عن مواقفهم واقتراح البدائل فالمصدوم والراغب في الاستقرار والسكينة والباحث عن معنى والساعي إلى تفكيك ما يجري من حوله دون جدوى كلّ هؤلاء مرهقون يتنازلون برضاهم عن التفكير والنشاطية ويروضون أنفسهم ويطوعون أجسادهم لأنظمة الضبط.
إنّ مناخا «سياسيا» سمته «العصف والقصف» بالصواريخ وغايته قطع «رؤوس قد أينعت وآن أوان قطافها» مناخ ينسف «الثقافة التنظيمية» بما هي مؤشرات تساعد الفرد على التخطيط والتوقع والتحمّل...ولا يمكن أن يساعد المرء على العمل والبناء ولا أن يحفّزه على الابتكار والإبداع والتحرّر والانتشاء بإمكانية الحلم. فهل مازالت هناك «فسحة أمل»؟
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال