أبانت نتائج الانتخابات التي انتظمت الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) في المغرب عن تقدّم بسيط لأحزابٍ محسوبةٍ على الصف اليساري، استطاعت أن تزيد عدد أعضائها داخل مجلس النواب (الغرفة الأولى داخل البرلمان)، خصوصاً ما يُسمّى اليسار التقليدي الذي يمثله حزبا الاتحاد الاشتراكي، وحصل على 35 مقعداً، والتقدّم والاشتراكية، ورفع عدد مقاعد نوابه إلى 23 مقعداً. وهو ما اعتُبر تقدّماً طفيفاً في عدد مقاعد الحزبين، مقارنةً بالتي كانت لهما في البرلمان السابق، فيما لم تحصل فيدرالية اليسار الديمقراطي، المكوّنة من ثلاثة أحزاب، إلا على مقعد واحد، وحزب "الاشتراكي الموحد" الذي خرج جزءٌ منه من الفيدرالية، على مقعد واحد، لتكون الأحزاب الثلاثة قد حصلت على مقعدين فقط، وهو ذات عدد المقاعد التي كانت تحوزها داخل مجلس النواب السابق..
وما يزيد الصورة ضبابية، بالإضافة إلى هذا التصوّر الذي بات يفرض نفسه على أحزاب اليسار، واقع التشتت والتشرذم الذي تتخبّط فيه مكوناته منذ عدة عقود، وفشلها المزمن في الخروج برؤية واضحة بشأن ما تريد أن تكون عليه مستقبلاً، في أفق بناء وحدتها المنشودة التي تحوّلت، مع مرور الوقت وكثرة المماطلات، إلى مجرّد وهم كبير، تخدّر به من تبقوا من أتباعها الذين يتناقص أعدادهم يوماً بعد يوم، حتى تحوّلت أغلب هذه الأحزاب إلى مجرّد قوقعاتٍ فارغة، تستوطنها "الكائنات" الانتخابية مع موعد كل استحقاق انتخابي، وأرقام صغيرة يؤثث بها المشهد السياسي، حسب ما تفرضه الظروف ورغبة مهندسي هذا المشهد الذين يُملون على الأحزاب السياسية تموقعها وخياراتها حسب كل مرحلة وسياقاتها. لذلك، خيار معارضة الحكومة المقبلة الذي وجدت هذه الأحزاب نفسها مصطفّة داخله. وإذا استثنينا "التقدّم والاشتراكية" و"فيديرالية اليسار" و"الاشتراكي الموحد" التي فرضت عليها نتائجها الهزيلة التموقع داخل صف المعارضة، فإن "الاتحاد الاشتراكي" سعى، حتى آخر لحظة، للمشاركة في الحكومة، قبل أن تصدّ أمامه أبوابها بطريقة مهينة، فوجد نفسه في صفوف معارضتها، مرغماً لا بطلاً.
أحزاب محسوبة على اليسار تغازل السلطوية، وتنافح عنها أكثر مما تفعله أحزاب تلك السلطة نفسها
وأمام هذا الواقع الجديد، بدأت ترتفع أصواتٌ ما زال يشدّها حنينٌ إلى الماضي تتحدّث عن فرصة جديدة أمام أحزاب اليسار لإعادة بناء نفسها، وتوحيد صفها داخل المعارضة، لكن من يعرف حقيقة مكوّنات هذه الأحزاب من الداخل، يدرك مدى صعوبة تحقق هذا الحلم، لأن أغلب المنتمين إليها أبعد ما يكونون عن فكر اليسار وقيمه، يضاف إلى ذلك الحساسيات الكبيرة بين قيادات هذه الأحزاب عن زعاماتٍ وهميةٍ، تغذّيها أنانياتٌ مريضةٌ تفرق أكثر مما تجمع. وحتى لو كانت هذه رغبة مهندسي المشهد السياسي، لدفع ما بقي من أحزاب اليسار لمزاحمة الإسلاميين في صفوف المعارضة، وفي الوقت نفسه، بناء البديل الذي يمكن أن تراهن عليه الدولة مستقبلاً لسدّ الطريق على عودة الإسلاميين إلى الحكومة، بعد أن تستنفد التجربة الحالية مبتغاها، فإن هذا الرهان يبدو خاسراً لعدة أسباب.
أول هذه الأسباب انفصام هذه الأحزاب عن مرجعيتها اليسارية، وعدم قدرتها على الاستجابة لقضايا الناس، خصوصاً بعد تجاربها في المشاركة داخل الحكومات المتعاقبة. يضاف إلى ذلك غياب مساحات النقاش والحوار داخل هذه الأحزاب، ما أدّى إلى تشتتها وانقسامها، ونفور عديدين من أعضائها منها، وتحوّل من بقي منهم إلى موظفين يلهثون وراء المصالح التي يمكن أن يوفرها لهم الحزب من أي موقع كان. أما السبب الأهم، فهو فقدان معنى أن تكون يسارياً اليوم، لأن هذا المفهوم لم يعد له محتوى نظري يؤطّره أو فقط خطاب متماسك له تمثلاته في تفكيك الواقع وفهمه واستيعاب تحوّلاته، مثلما كان الأمر في الماضي، عندما كانت الفكرة اليسارية تحيل على تمثل أصحابها مفهوم الصراع الطبقي والعدالة الاجتماعية...
اليسار في حاجة إلى رجّة كبيرة للعودة إلى قيمه الحقيقية التي لم تعد قادرة على صياغة المخيال الشعبي
من بين هذه الأحزاب اليسارية الذي يقدّم أجوبة حقيقية عن الأسئلة التي يطرحها الفكر اليساري في عالمٍ لم يعد فيه تمايز كبير بين اليسار واليمين، بل حتى بين الديمقراطية والسلطوية، عندما باتت أحزابٌ محسوبةٌ على اليسار تغازل السلطوية، وتنافح عنها أكثر مما تفعله أحزاب تلك السلطة نفسها. الفكرة اليسارية اليوم مجموعة من المتناقضات التي توهم من يتّبعها بأنه ديمقراطي، وفي الوقت نفسه، ضد الرأي الآخر، حتى لو كان من داخل المكوّن السياسي نفسه، واشتراكي، لكنه يرى في الليبرالية طريقاً لتحقيق الحلم الاشتراكي، وينادي بالحرية، لكنه مع القمع والسلطوية إذا كان ضحيتها خصومه السياسيين من الإسلاميين، ومع العدالة الاجتماعية لكنه يتواطأ مع الفساد، هذا إذا لم يجد نفسه غارقاً داخل أتونه.
اليسار بالفعل في حاجةٍ إلى رجّةٍ كبيرة، للعودة إلى قيمه الحقيقية التي لم تعد قادرة على صياغة المخيال الشعبي كما كانت تفعل في السابق، وهي اليوم تجد نفسها أمام منافسٍ كبير لها، هو الفكر الإسلامي الذي نجح، في سنواتٍ قليلة، في تشكيل المخيال الشعبي وإعادة صياغة الأسئلة التي تشغل بال الناس، وتمسّ حياتهم المعيشية اليومية. ولعل هذا أكبر تحدٍّ يواجه اليوم الفكر اليساري، ليس في المغرب فحسب، بل في العالم، أي مدى قدرته على استعادة المكانة التي كانت له، أو على الأقل اقتسامها مع الفكر الذي بات اليوم يزاحمه على الرقعة نفسها وداخل الميدان نفسه.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال