ليس مهما لدى الشارع دقة تأويل الفصل 80 من الدستور أو غيره في تأمين الخروج من الأزمة، المهم ما ينفعهم في حياتهم ويوفر لهم الخدمات الكافية ومواطن العمل.
خلال عشر سنوات من تجربة حكم الأحزاب، وفيها أحزاب إسلامية (حركة النهضة)، وأحزاب وسطية (يسارية وليبرالية)، وأحزاب محسوبة على الثورة بتوجهات قومية مثل حركة الشعب، انتهت البلاد إلى أزمة شاملة سياسية واقتصادية واجتماعية لا أحد يشك فيها أو يتبرأ منها بمن في ذلك ممثلو هذه الأحزاب.
لا تتقن الأحزاب التي كانت دائما على هامش الدولة غير الكلام، وهي متخصصة بإصدار البيانات ذات المفردات القوية لنقد خصومها، خاصة في مرحلة ما قبل الثورة، فهي تريد بناء عالم مرسوم في الكتب القديمة وفي أذهان قادتها الذين ظل أغلبهم لعقود في القيادة وجالسا على الربوة “لا شغل ولا مشغلة” كما يقول المصريون.
إن المأمول شعبيا أن ينهي قيس سعيد الموضوع السياسي بسرعة، ويقدم خططه للانتقال المرحلي بتعديل القانون الانتخابي والمرور إلى استفتاء شعبي
وحين منحت لهم الفرصة كاملة لإدارة البلاد، اكتفى قادة أغلب الأحزاب بالاشتغال على ما يتقنونه خلال عقود، وهو الكلام، والصراع السياسي، والمناورات والتحالفات التي تتغير شهرا بعد آخر، وتركوا بقية الملفات الحيوية للمجهول.
لا يمتلكون رؤى لإدارة الملف الاقتصادي وتركوه للمضاربين ولوبيات المال الذين نجحوا في استثمار انتهازية قادة أحزاب ونواب في البرلمان لتوفير حزام متين لهم بوجه الدولة الهشة وعطلوا مساعي القضاء لمتابعة ملفات الفساد، وهو قضاء قد تم اختراقه وجره إلى مربع الأجندات الحزبية والشخصية، أو ما بات يعرف في تونس بـ”قضاء التعليمات”.
واكتشف الناس، وخاصة الفئات الفقيرة والهشة، أنهم على هامش اهتمامات “أحزاب الثورة” بالرغم من أن أدبياتها القديمة مليئة بالشعارات التي تمتدحهم وتعدهم بجنة على الأرض. لم يحمل هؤلاء معهم من أفكار لتطوير أوضاع الناس سوى فكرة المساعدات الظرفية التي تغرق ميزانية الدولة في الديون وتزيد من أعبائها، بدل تقديم خطط توفر مواطن عمل قارة للعاطلين عن العمل عبر إصلاح الاقتصاد واستقبال رأس المال المحلي والأجنبي وتشجيعه.
أن تأخذ من ميزانية متعبة أصلا ومرهقة بالزيادات والعلاوات والبذخ الإداري وتعطي منحا هشة وبلا فاعلية للملايين من العاطلين بزعم أنك تقف إلى جانبهم، فأنت تحل مشكلتك الخاصة وتزيد شعبيتك بإغراق الدولة وتفقيرها، وإلا ما معنى توظيف عشرات الآلاف في مهن غير منتجة مثل الحظائر المنتشرة في كل مكان ويأخذ العاملون فيها رواتب زهيدة ولا يؤدون أي دور. ولم يكن الهدف من ذلك سوى إسكاتهم، وكسب أصواتهم في الانتخابات.
وبات الرأي العام على قناعة أن لا حل دون انسحاب الوجوه التي قادت البلاد إلى الأزمات المعقدة من المشهد السياسي لأجل تهدئة الأجواء وإعادة بناء الثقة بين مختلف الأطراف، خاصة مع رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي يحوز على ثقة تسعين في المئة من الشعب لقيادة المرحلة القادمة.
وتصدر دعوات واسعة حتى من داخل حركة النهضة للضغط على راشد الغنوشي للانسحاب من رئاسة البرلمان، ومن رئاسة النهضة، والتوقف عن الظهور العلني وإطلاق التصريحات التي تصب الزيت على النار، وهو مطلب داخلي كما هو خارجي من أجل تسهيل مرور تونس لمعالجة المسائل المهمة بدل الدوران في مكان واحد بسبب الصراع على السلطة.
كل الأنظار موجهة إلى الرئيس سعيد كيف يمكن أن يقود البلاد بعد أن قطع الطريق على محاولات العودة إلى منظومة الرابع والعشرين من يوليو
ولم يجد “الثوار” لإنقاذهم من ورطة حكم الهواة سوى تقاليد الإدارة، التي يصفونها بالدولة العميقة، وقد نهضت بتسيير الدواليب وحافظت على تماسك المؤسسات والقيام بدورها الأساسي في تقديم الخدمات والحفاظ على الرواتب.
لأجل هذا خرجت مظاهرات عديدة تطالب المؤسسة العسكرية بلعب دورها في إنقاذ البلاد من الصراع السياسي الحامي الذي ضيع المصالح ووضع الأمن القومي على المحك. وتحوز هذه المؤسسة بدرجة رئيسية على ثقة الشارع التونسي لما عرفت به من نزاهة ونظافة يد وترفّع عن الصراعات.
ولا شك، كذلك، أن مشاركة المؤسسة الأمنية ذات الخبرات الواسعة في دعم الانتقال السياسي الذي جاء بعد الخامس والعشرين من يوليو ستمثل ضمانة قوية للاستقرار، فهي مؤسسة تحوز على ثقة طيف واسع من التونسيين بالرغم من المؤاخذات التي تحصل هنا وهناك على تجاوزات في أغلبها سلوك فردي يأتي كردة فعل على ما يستهدف الأمنيين من إشاعات وتشويه واستهداف.
ومع مضي شهرين على الإجراءات الاستثنائية التي أقدم عليها قيس سعيد لا تجد أي حنين إلى حكم الأحزاب بما في ذلك لدى من يعارضون قيس سعيد في تأويل هذا الفصل من الدستور أو ذلك. وهناك قناعة واسعة بأن الأزمة سببها حكم الأحزاب والنظام البرلماني المشوه الذي قاد البلاد خلال عشر سنوات، وأن الأمل هو في تغيير جذري يتخلص من النظام السياسي ومن الوجوه التي قادت مرحلة التأزيم ومن أحزابها.
وتظهر استطلاعات الرأي المختلفة أن الأحزاب بمختلف توجهاتها يمينا ووسطا ويسارا لا تحصل على اهتمام الناس عدا الحزب الدستوري الحر الذي تقوده عبير موسي بسبب مواقفه الراديكالية في السنوات الماضية من حكم المنظومة السابقة، وشعبيته يستمدها من غضب الشارع على القديم ككل أكثر من تفاعله مع أفكار الحزب أو قيادته.
كل الظروف الآن مهيأة لدعم الانتقال السياسي الجديد، بالرغم من تحركات الخصوم وحملاتهم. وما يحدد من النجاح على هذا المستوى هو قدرة الرئيس سعيد على المضي في تنفيذ ما يريده بقطع النظر عن الإشكاليات التي تحوم على تأويل الفصول.
ليس مهما لدى الشارع دقة تأويل الفصل الثمانين أو غيره في تأمين الخروج من الأزمة، فتلك مهمة القانونيين بمختلف اختصاصاتهم، وهي لدى الناس ترف فكري وحقوقي، تماما مثل أشكال الحكم، برلمانيا كان أو رئاسيا، ديمقراطيا أو دكتاتوريا. المهم ما ينفعهم في حياتهم ويوفر لهم الخدمات الكافية ومواطن العمل، ويضمن الأمن والاستقرار.
كل الناس تحب الديمقراطية وتتمنى حريات دون ضوابط، لكن إذا كانت تلك الديمقراطية ستقود إلى الجوع والخوف وتعجز عن تأمين لقمة العيش والخدمات الصحية، فما قيمتها على الأرض.
والآن كل الأنظار موجهة إلى الرئيس سعيد كيف يمكن أن يمسك بالقيادة وإلام سيقود البلاد بعد أن قطع الطريق على محاولات العودة إلى منظومة الرابع والعشرين من يوليو والتفاوض معها، وهو ما عكسه خطابه القوي بمناسبة زيارته الاثنين إلى مدينة الثورة سيدي بوزيد في رسالة قوية على أنه هو من يمثل الثورة التي قادها الشباب العاطل عن العمل، وتزعمتها المناطق الداخلية المنسية في وقت كانت الأحزاب مختفية عن الأنظار وتكتفي بالجلوس على الربوة.
لا تتقن الأحزاب التي كانت دائما على هامش الدولة غير الكلام، وهي متخصصة بإصدار البيانات ذات المفردات القوية لنقد خصومها، خاصة في مرحلة ما قبل الثورة
إن المأمول شعبيا أن ينهي قيس سعيد الموضوع السياسي بسرعة، ويقدم خططه للانتقال المرحلي بتعديل القانون الانتخابي والمرور إلى استفتاء شعبي ليحسم عناصر الخلاف حول شكل المرحلة القادمة. فليس شكل النظام القادم هو المهم، وإنما النتائج التي سيحملها، وخاصة تحييد الصراعات لأجل التفرغ لخدمة الناس.
والأمر بالتأكيد أكبر من الوعود والشعارات والحماسة في الخطاب، إنهم يريدون نتائج على الأرض، وهي لا تأتي سوى بالإصلاحات السريعة للاقتصاد ومؤسسات الدولة، وتشكيل حكومة متخصصة لتقدم حلولا عملية تتماشى مع ظروف البلاد وعلاقاتها خاصة مع المؤسسات المانحة.
لا تحتمل المرحلة القادمة أكثر من إعادة الثقة لصورة تونس في علاقاتها مع الشركاء الاقتصاديين في الداخل والخارج، فرجال الأعمال المحليون الذين فر العشرات منهم بأموالهم ومؤسساتهم وخبراتهم يحتاجون إلى قوانين ومناخ اجتماعي إيجابي يساعدهم على العمل وتوفير الوظائف.
كما أن الشركاء الخارجيين يريدون التعامل مع دولة قوية فيها جهة قرار معلومة للتفاوض معها بشأن الإصلاحات المعنية التي تحرر الاقتصاد من البيروقراطية وتحرر الدولة من ثقافة الزيادات والعلاوات وتوفير المزايا لموظفين لا ينتجون.
مختار الدبابي - كاتب وصحافي تونسي
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال