تقول نوال السعداوي: "الوطن حيث يكون الحب وتكون الحرية"
وطأتْ قدماي أرضا خضراء مليئة بالحياة وأنا ممسكة بيد فراشتي التي كانت ترافقني في حلّي وترحالي، أرض بنسائم نقية وابتسامة بارزة على وجوه لم يسمح لي الوقت بالتعرف عليهم ..
كنتُ حينها قد بلغتُ الخامسة والعشرين من عمري في قمة الرغبة في الحياة مع خيبة أمل، كنتُ كمن تجاوزتْ آلة الزمن من بلد إلى آخر لا يمت أحدهما للآخر بصلة ..
القدر اختار لي هذه البلاد(الدنمارك)، أتذكر في مادة الجغرافية في الاعداية تطرقنا في أحد الفصول إلى الدول الاسكندنافية وبشكل بسيط جداً الى دولة صغيرة تدعى الدنمارك، حينها لم تشكل لي أهمية كبيرة شأن زملائي، شاء القدر بعد سنين أن تطأها قدماي هاربة من كلّ أنواع الظلم
شاء القدر أن أترك كلَّ شيءٍ خلفي في ليلة ظلماء حيث كلّ الأضواء لا تستطيع أن تُبدد ظلمتها، شاء القدر أن أخيّم في هذا البلد.
الآن وقد بلغت خمسة عقود من العمر، قضيتُ نصف منها فيما يُسمّى بلدي ونصفها الآخر فيما يسمى أيضا بلدي.
البلد الذي أحمل جنسيته ..
بلد النصف الأول من العمر، حيث الطفولة مصحوبة بالخوف؛ أتذكر لقطةَ الطفولة المرعبة تلك..أنا واخوتي مصطفون كأشجار تنتظر الاعدام أمام منزلنا المتواضع وقبالتنا بلدوز بزناجيلها المرعبة، أن نخلي المنزل أو يهدموه على رؤوسنا، وأمي تتوسطنا تتمنى أن تعيدنا إلى رحمها، المكان الأكثر أماناً.
أنا هي الطفلة التي قضت أشهرا في الجبال هاربة من شي لا تفهمه، لا تفهم لماذا لا يُسمح لها بتناول القليل المتبقي من الطعام المغطى بمادة تخلفها الصواريخ بعد انفجارها.. طفلة ذنبها أنَّ والدها من البيشمرگة، والدٌ يقاتل من أجل تحقيق شيء من حرية شعبٍ لطالما لم ينلها كاملةً حتى اليوم..
بلد النصف الأول من العمر، حيث بداية الشباب والبحث عن الذات، حيث القراءات واكتشاف العالم، حيث طرح مائة سؤال وسؤال، حيث عوالم مكسيم غوركي، ديستوفسكي ، ليو تولستوي، كازانتزاكي وآخرين وآخرين، حيث التوقف عند اللامعقول واللامنطقي، ورفع شعار الرفض لكليهما،
حيث كلّ شيء مهمّش، الكلمة الحرة، حقوق المرأة والطفل، كرامة الانسان، حيث التقاليد البالية، الجهل والتخلف الطاغيان و السائدان..
بلد النصف الأول من العمر ، حيث أمي هذا الصرح العظيم ، كالبحر بعمقه في الحب، كليالي الربيع في دفئها.
بلد النصف الثاني من العمر ، بلد لا خوف فيه، النظام في كلّ شي, كلّ كائن له دور ما في المجتمع، له حقوق وواجبات.
بلد أحسستُ فيه ولأول مرة في حياتي أنني أتنفس الصدق والنقاء.
بلدٌ تنبض مدنُه بالأنشطة، وممارسة الحياة اليومية بحيوية، تحضرُه وحبُّ ناسُه له هو السائد ..
هل من الممكن أن أجلس الآن واضع يدي على خدي وأكون في حيرةٍ من أمري وأسال نفسي: يا ترى إلى أي بلد انتمي ؟
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال