جمهورية هايتي إحدى بلدان البحر الكاريبي، كانت مستعمرة إسبانية، ولاحقا فرنسية. تُعد هايتي أقدم جمهورية من أصل أفريقي في العالم، تمتعت بالاستقلال منذ عام 1804؛ ولكنها خضعت باستمرار لحكام مستبدين، لم يبذلوا أيّة جهود لرفاهية شعبهم، فابتليت على الدوام بأعمال العنف السياسي. يبلغ عدد سكانها أكثر من 10 ملايين نسمة (إحصاء 2009)، أغلبهم من الأفارقة الذين جلبوا كعبيد.
كان مويس يرفض منذ شباط الفائت التخلي عن رئاسة الجمهورية، مما سبب اندلاع احتجاجات شارك فيها الآلاف الذين اتهموه بالفساد، وخصوصا ما يتعلق ببرنامج “بيترو كاريبي” الذي زودت فنزويلا بموجبه هايتي بالنفط وتمويل بمليارات الدولارات بهدف دعم تنمية البلاد.
وما لم تحققه أشهر من الاحتجاجات الشعبية، قامت به مجموعة صغيرة من المرتزقة في غضون دقائق. وبواسطة متنكرين بكونهم عاملين في دائرة مكافحة المخدرات الأمريكية الناشطة في هايتي لمكافحة المخدرات، دخلت المجموعة المنزل وقتلت الرئيس.
وتأتي عملية الاغتيال خلال وضع، يصفه المتحدث بالثوري المتصاعد. وإن التظاهرات الشعبية ضد الفساد، التي دعمتها المعارضة البرجوازية، التي تهيمن عليها بشكل متزايد قوى راديكالية علنية مثل تلك التي تحيط بجيمي “باربيكيو” شيريزير ضابط الشرطة السابق الذي أصبح قائدًا لقوات الدفاع عن المواطنين، وسعى إلى توحيد العديد من مجموعات الدفاع عن النفس المسلحة في هايتي وحتى عصابات الجريمة تحت لواء “القوات الثورية للعائلة وحلفائها” المعروفة بـ (جي 9). ويشكل الملايين من الفلاحين السابقين من سكان الأحياء الفقيرة في هايتي قاعدتها، أي ما يعرف بـ „حثالة البروليتاريا”، كما هي عن ماركس في البيان الشيوعي، أي جموع من العاطلين عن العمل.
وفي الوقت الذي لا تزال فيه هوية الذين يقفون وراء مقتل مويس غير معروفة رسميا، فإن كيم إيفز من هاييتي ليبرتي يرجح أن ما حدث، يمكن ان يكون مؤامرة تهدف إلى وقف مد ثوري متنامي، وحتى تهيئة المقدمات لتدخل عسكري لمشاة البحرية الأمريكية في البلاد.
عملية نوعية
نفذت عملية الاغتيال من قبل عصابة من المرتزقة المحترفين، استخدمت أحدث موديل من سيارات نيسان – باترول. وكانوا على معرفة دقيقة بتفاصيل منزل الرئيس. وكانت تحضيراتهم عالية، وبتمويل جيد. لقد كانت العملية بارعة جدا. والأطروحة التي توصلت لها مجلة “هاييتي ليبرتي” هي أن المرتزقة تم توظيفهم على الأرجح من قبل عائلة او مجموعة من العوائل الرأسمالية المعارضة للرئيس، مثل عوائل ريغينالد بولس، وديميتري فورب، وغيرهم من غير الراضين على الرئيس.
ويعد ريغينالد بولس من أكبر اثرياء هايتي والأكثر عداءً لمويس. ويقال إنه هرب من البلاد. وكانت هناك مذكرة القاء قبض بحقه، يمكن أن تكون دفعته لتمويل وحدة مرتزقة لقتل الرئيس. وربما كانت هناك حاجة إلى أموال أكثر مما لا تستطيع أسرة بمفردها توفيرها. وبالتالي يمكن أن تشارك عدة عائلات في التمويل. كما حدث في الانقلابات السابقة، مثل الانقلاب على الرئيس السابق جان برتران أريستيد، حيث عبأت البرجوازية قواها وجمعت عشرات الآلاف من الدولارات لدعم انقلاب عام 1991.
واليوم نرى الرئيس الكولومبي إيفان دوكي، الذي يعد الرئيس الأكثر رجعية حاليًا في أمريكا الجنوبية، يقترح تدخلا عسكريا لمنظمة الدول الأمريكية في هايتي، مثلما فعلت في عام 1965 في الجارة جمهورية الدومينيكان. ويمكن لمنظمة الدول الأمريكية الحصول على رؤساء رجعيين مثل دوكي وجاير بولسونارو في البرازيل والهندوراس لتقديم الجنود. ولكن مثلما حدث في عام 1965، فإن مشاة البحرية الأمريكية سيكونون العمود الفقري لقوات منظمة الدول الأمريكية.
وإذا ما انطلقنا من صحة هذه الفرضية، فإن الخوف من الانتفاضة المقبلة من الأحياء الفقيرة الضخمة في هايتي، حيث تنظم البروليتاريا الرثة نفسها في مجموعات مسلحة، ألزمت نفسها الآن بثورة ضد البرجوازية و “النظام الفاسد”. “، كما يقولون في هايتي. يقود هذه المجموعات ضابط الشرطة السابق جيمي شيريزير، الذي تحول إلى مواقع المقاومة، نتيجة تجربته الشخصية والخيانة التي تلقاها، ليس فقط من جانب قيادة الشرطة، ولكن أيضًا من جانب المعارضة البرجوازية وكذلك من الرئيس المقتول. لذا فهو يدافع عن “ضحايا الاضطهاد”، اي هذا العدد الهائل من المشردين.
الثورة المضادة تستبق التغيير
قبل خمسين عامًا، كان المجتمع الهايتي، إلى حد كبير، ريفيًا وفلاحيًا. لكن على مدار الخمسة وثلاثين عامًا الماضية، منذ الإطاحة بالديكتاتور جان كلود دوفالييه (1971 - 1986)، أدت “الإصلاحات” الليبرالية الجديدة التي دفعتها واشنطن إلى الأمام في هايتي، إلى تدمير القطاع الزراعي المحلي، وكانت النتيجة هجرة ملايين الفلاحين وانتقالهم إلى المدن، ليصبحوا جزءًا من هذه البروليتاريا الضخمة.
لقد ارعبت هذه الحركة المسلحة البرجوازية الحاكمة. وقال قائدها: “سنأتي ونقتحم مصارفكم، متاجر سياراتكم، واسواقكم ونأخذ حقوقنا”. لقد باتت الطبقة المهيمنة دون حماية، فالرئيس القتيل كان عمليا فاقدا للسلطة، ومعزولا بالكامل، لكنه رفض التخلي عن منصبه، لذلك لجأوا إلى انهائه.
وليس لهذه الحركة علاقة بتصفية الرئيس. لقد كانت العملية باهظة الثمن للغاية. لقد استخدموا 9 سيارات نيسان باترول جديدة. ومن الواضح أنهم أمضوا وقتًا طويلاً في الاستعداد. وليس بوسع بروليتاريا المدن الرثة القيام بذلك. لقد كان المنفذون أجانبا يتحدثون الإسبانية والإنكليزية، وادعوا بأنهم من إدارة مكافحة المخدرات الامريكية. وهذا لا يتناسب اطلاقا مع طبيعة مسلحي الأحياء الفقيرة في هايتي. والعملية تذكر بوحدة المرتزقة الذين تم استئجارها قبل عامين لسرقة 80 مليون دولار من صندوق بتروكاريبي للبنك المركزي الهايتي.
وهذا هو ما تفعله البرجوازية. إنهم يستأجرون القوة العضلية والنارية التي يحتاجونها، تمامًا كما استأجروا اشقياء البروليتاريا الرثة في الماضي لتنفيذ مهامهم القذرة. لكن شيريزير يقول اليوم: “لم نعد نعمل من أجلكم، لن ننفذ أعمالكم القذرة”. ولذا كان عليهم الاستعانة بمرتزقة الخارج.
جرائم سياسية وليست جنائية
كان لدكتاتورية دوفالييه عصابة كبيرة تسمى “متطوعو الأمن القومي”، كانت في الأساس مليشيا مهمتها حماية عائلة الدكتاتور ومصالحهم. لقد كانوا عيون وآذان وقبضات نظام الحكم، وحموا بقوة تلك السلطة طيلة ثلاثة عقود.
وبعد فرار الدكتاتور جان كلود دوفالييه من البلاد في عام 1986، بدأت هذه المليشيا تعمل لحسابها الخاص، فنهبوا المناطق السكنية، واعتدوا على الناس بوقاحة، يسلبون من المتاجر كل ما يريدون، ويغتصبون النساء، لقد ارتكبوا جميع أنواع الجرائم التي جعلتهم مكروهين.
وعندما تحولت المليشيات بعد رحيل دوفالييه للعمل لحسابها الخاص، نظمت الأحياء الشعبية في هايتي ما يسمى بـ “ألوية اليقظة”. بدأ هؤلاء في الغالب كمجموعات تضرب على الأدوات المنزلية مثل القدور والمقالي لإخافة اللصوص، لكنهم سلحوا أنفسهم تدريجياً واستأجرتهم البرجوازية لحراسة مصانعهم أو منازلهم أو أراضيهم. وفي نهاية المطاف، تحولوا إلى أدوات في الصراع والتنافس بين العوائل البرجوازية.
وفي سنوات 2019 – 2021 تقلصت سلطة الدولة إلى الصفر تقريبًا. وحكومة مويس فقدت شرعيتها، وأصبحت محتقرة لفسادها وقمعها. وبدأت الأحياء الفقيرة والعصابات تعمل لحسابها الخاص، وانتشرت عمليات الخطف العشوائي، وتجري تصفية الضحية حتى بعد دفع الفدية. لقد تحول ما يحدث إلى رعب صادم للمجتمع. وهنا دخل على اللعبة شيريزير، ضابط وحدة النخبة في الشرطة الوطنية الهايتية، الذي كلف من قيادة الشرطة في تشرين الثاني 2017 بتشكيل مجموعة قتالية من 10 منتسبين في منطقة عمله لمداهمة عصابات الجريمة.
تلى ذلك قتال بين الشرطة ورجال العصابات. وقُتل العديد منهم، وسقط ضحايا من المدنيين. وليس واضحا ما حدث بالضبط. وادانت قيادة الشرطة ما حدث: “ لقد كان عملاً معيبًا، و تصرفا شخصيا من شيريزير “. لقد خذلوه وجعلوه كبش فداء. وهكذا تحول إلى متمرد على سلطة فاسدة. لقد رأى أن القوات التي كان مخلصًا لها تخونه وتحاول استخدامه للتغطية على أخطائها.
بعد ذلك عاد شيريزير إلى حيًه الذي كان يعاني من الخاطفين والمغتصبين. وذهب إلى هذه العصابات وخيرهم بين القتل او مغادرة الحي، فاختاروا الرحيل، وانتقلوا إلى مناطق أخرى. هكذا أصبح شيريزير يُعرف باسم لواء الأمن. كان جادًا جدًا، كرجل قانون ونظام. وصنع لنفسه اسما وبدأ يطور علاقات مع بعض قوى البرجوازية المناهضة للرئيس. ولكن سرعان ما اصطدم بها، عندما ارادت توظيفه في صراعها المافيوي، وبالضد من المصالح المباشرة للعاملين من أصدقائه.
أدرك شيريزير أن كل شيء فاسد، ليس الشرطة والحكومة فقط، بل المعارضة البرجوازية ايضا. لقد أصبح أكثر راديكالية، وعبر عن ذلك بالقول: „علينا تغيير النظام الفاسد والعفن بالكامل، النظام الفاسد من رأسه حتى أسفل قدميه”. وعمليا أطلق هذه الحركة التي اعتبرها ثورة ضد 12 عائلة تحكم هايتي.
الانتخابات الرئاسية وعملية الاغتيال
ليس هناك مؤشرات على أن اغتيال الرئيس سيؤدي إلى انتخابات رئاسية، تجلب رئيسا جديدا يلبي رغبات البرجوازية. لقد كان الجناح المعارض من البرجوازية، يطالب منذ فترة بحكومة انتقالية، وسيحصل عليها.
والسؤال الكبير: هل هناك شخص لديه ما يكفي من القوة أو الدعم أو التعاطف الشعبي للقيام بعملية تجديد جذرية للدولة؟ هل هناك رئيس وزراء وقائد شرطة لديهما القوة والعقل الكافي والتمويل اللازم لوقف انتفاضة العشوائيات؟ يبدو ان الشك سيد الموقف. وهذا يعني انهم سينتقلون، على الأرجح، إلى الخطة (ب)، التدخل العسكري الأجنبي. وهنا يأتي دور الرئيس الكولومبي دوكي ومنظمة الدول الأمريكية. وستكون البرجوازية سعيدة برؤيتهم في البلاد لحماية مصالحهما، التي تتطابق عمليًا مع المصالح التجارية الأمريكية، ففي كثير من الحالات يكونون ممثلين لشركات أمريكية وبعضهم يحمل الجنسية الأمريكية. ولذلك يسود الاعتقاد، بان الهدف من عملية الاغتيال، هو التمهيد للقمع وتدمير انتفاضة العشوائيات، وصولا إلى الاستعانة بقوات عسكرية أجنبية، للمرة الرابعة خلال المائة عام الأخيرة.
في هذه الاثناء تم دفن الرئيس القتيل في مسقط راسه، ولا تزال البلاد تشهد حالة من عدم الاستقرار، فأنصار الرئيس يحتجون في مدنهم ورفضوا مشاركة النخبة الحاكمة في مراسيم الدفن، وأطراف من المعارضة ترفض التعاون مع رئيس الوزراء الجديد، والتحقيقات اثبتت صحة التوقعات التي تمت الإشارة اليها، من خلال اعتقال 18 كولمبيا، وان تمويل المرتزقة تم من داخل الولايات المتحدة، التي أرسلت مبعوثا خاصا لهايتي ليساعد في استقرار الأمن.
وختاما لا بد من التأكيد ان ما ورد يسلط الضوء على جوانب مهمة من الصراع الدائر هناك، ولكن الحاجة تبقى لإضاءة المزيد بشأن طبيعة الصراع والعوامل المؤثرة فيه.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال