أشرف القرقني يستدرج قراءه إلى منفاه المسيج بمرايا من تراب.
“نشيد سيّد السبت” كتاب شعريّ للشاعر أشرف القرقني، وهو نصّ واحد لا ثاني له، متعدّد البدايات، بنهايات أكثرَ، نظرًا إلى هوامش النشيد ذات العتبات، ولا عتبة في المتن لأيّ بداية سوى كلماتٍ رُقنت بخطّ غليظ تتعثّر به العين متيحةً فرصةً لالتقاط الأنفاس. غير أنّنا لسنا في حاجة إلى الأنفاس، ولا إلى الخطوات، إذ لا طريق، بل سرعان ما نجد أنفسنا داخل البيت مباشرةً “أنا بيت أخرق ومهذار”، هكذا، دون الوقوف على عتبة، ولا باب لنطرقه.
بتسمية نفسه يبدأ سيّد السبت نشيده. ذاتٌ منحدرة من الحجارة لا بهذا الخَلْق البلاغيّ، بل على محمل الخلق السرديّ الذي يحوّل الصورة الاستعاريّة – على ما تتّسم به من تجريد – إلى حدث محكيّ محكوم بالمكان والزمان. سردٌ متلبّس بالنص ملازم له كأنّه إيقاعه، لا يغادره إلّا كما يغادر الصوتُ الكلمةَ لحظةَ لفْظِها ليظلّ المعنى في تلك المسافة بينهما. هكذا تمّ إسقاط فعْلِ الخلق من صورته المفارِقة إلى حدث معقول قابل للإدراك وحتى للّمس.
الدخول إلى السياج
في “نشيد سيّد السبت” الصادر عن منشورات المتوسط، نحن إزاء خلْقٍ خُلعت عنه القداسةُ ليصبح فعلًا بشريًّا مشحونًا بكل التناقضات. فهذه الذات وإن كانت من سلالة الآلهة “أبي ربٌّ حجري ملعون”، فإنّها تتقصّد كل ما يخالف نواميسها متوسّلةً سلاح الآلهة نفسَه وهو القدرة على الخلق. فبدأت بخلق ذاتها، وهو الإعلان الأوّل عن التمرّد من اللحظة الأولى. ثمّ سرعان ما مرّ صاحب النشيد من الإعلان إلى الفعل “حتى أنا سمّيت نفسي بنفسي”.
غير أنه لم يصمت عمّا حدث قبل اسمه كما لم يصمت عمّا حدث خارج هذا البيت، مخالفًا في هذا أباه الرّبَّ الذي امتهن الصمت، بل سرعان ما تصدّى له مستعيدًا لحظة الخلق الأوّل في بناء قصصي سرديّ على نحو النصوص المقدّسة، لا تذكيرًا وتبشيرًا وإنما رفضًا وخلعًا، حتى أنّ سيّد السبت، وإن بدا ممتدحًا لتلك الذات التي انحدر منها، باعتبارها غايرت صفات الآلهة وأفعالها إلّا أنه لم يرثْ منها هذه المغايرة “وأبي ربٌّ حجريّ ملعون. مهنته الصمت (…) لم يشارك (…) لم يخلق (…) لم يحلم (…) لم يسمِّ (…)”.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ سيّد السبت يقرّ بربوبيّة أبيه، لكنه يعطّلها في علاقة به، فلا ينتسب إليه إلّا من جهة كونه أبًا (أبي) أمّا ربوبيّة هذا الأب فهي على غير الابن، أو بالأحرى هي على لا أحد.
الكتاب الشعري انبنى في جوهره على حركة شبيهة بحركة المتاريس، بل هي نفسها من حيث مبدؤها الميكانيكي
هذا التفصيل النحوي البسيط المرفوق ضرورةً بدلالة مصبوغة بطبيعة التركيب من حيث البساطة والثانويّة البادية عليه، ما كنّا لنتوقّف عنده لولا أنّ الشاعر قد بنى كامل نشيده على هذه الدلالة الجزئية المخفيّة في النحويّ. بمعنى أكثر تبسيطًا، وباعتبار اللغة نظامًا لا نهائيًّا من ممكنات القول، فإنّ قول “وأبي ربٌّ حجريّ ملعونٌ” قد يكون له المعنى نفسه لإمكان آخر كأن نقول “وأنا ابن ربٍّ حجري ملعون”.
لكنْ ما إن نتقدّم في النشيد حتى نتبيّن لَطافةَ الفرْق بين المعنييْن ومن ورائه دقّة وعي أشرف القرقني “ومِن بللٍ يقطرُ في سقف آلهة قديمة، خلقتُ نفسي. وكنتُ خصمها الوحيد، وسياج منفاها”، فالابن إذن لم يرث الربوبية من أبيه، هو ليس ربًّا بالوراثة أو على الأقل لم يكتف بأنّه كذلك، كما لم يكتف بصفة المغايرة التي امتدح بها أباه بل يتعدّاها إلى “الآخريّة” فارضًا علاقةً من اختياره تربطه بكل ما يمثّل آلهةً أو يدّعي الألوهيّة أو يحاول فرْضَها على أنّها حقيقة.
فلئن كان الربّ الأبُ قد لاذ بالصمت فإنّ الابن يعلن خصومته للآلهة، وهو في هذا منفرد لا مثيل له. بل إنّ لحظة خلقه نفسها التي تمّت على يديه هو دون غيره، كانت لحظةَ تمرّدٍ كلّي من مادّة الخلق التي كانت نابعةً من شقٍّ في سقف الآلهة، إلى قيام الذات بذاتها دون الحاجة إلى آخرٍ، لتستقرّ هذه الذات سياجًا يتصدّى لكل محاولة هروب من المنفى قد تقوم بها تلك الآلهة.
نرتدّ مرّة أخرى إلى اللحظة الأولى، إلى تلك الـ”أنا” التي تسيّج المنفى محاولين تتبّع تعريفاتها، ولن نجد عناء في ذلك إذ لم يبخل الشاعر علينا بأسمائها “أنا بيت أخرق مهذار”، “أنا سيّد السبت”، “لكنني الطوفان” “أنا أيضا أبوتمّام”.
أسماء لا هي الحُسنى ولا هي السَّوْأى، لا بمعنى الهجانة، لا بل هي كذلك. فأشرف القرقني يردّ هروبنا الأبدي من حقيقة مفادها أنْ لا وجود لأيّ شيء خالص، لا نقاءَ مطلقًا إلّا في اللّا شيء، ولا أحد محضٌ سوى اللّا أحد.
هكذا لم نتفطّن إلى الفخّ المنصوب مع أوّل كلمة من النشيد إلّا بعد إتمامه، حينها يكون السياج حولنا قد اكتمل. وعلى أحوال متعدّدة بتعدّدنا، نحن القرّاء، الواقعين في شرك العنكبوت، نحاول إعادة تركيب ما حدث: فتحنا النشيد، وجدنا أنفسنا مباشرة في بيت، هذا البيت هو أناه، ذلك الذي ليس نحن، نبحث عمّن/ عمّا يشبهنا، نجده، وبسرعة ربّما، لكن كمن يجد نبعًا في سراب الصحراء، نواصل البحث، آملين، ثمّ مخذولين، ثمّ خائفين، ثمّ يائسين … ثمّ ماذا؟ ثمّ منفى.
أمّا صفات هذه الذات وأفعالها فهي المتاهة التي يستحيل الخروج منها، متاهة من مرايا، مرايا بطباع التراب، حيث تتحلّل الكائنات والأشياء والذوات، أمّا من كان من طبيعة المرايا، أي زجاجيًّا، فإنّه سيكون أكثر صمودًا، لن يتحلّل إلى الأبد ربّما، لكنه سيصبح هو الآخر مرآةً.
وهل بإمكان الذات الصمود أمام الآخر سوى بالتحوّل إلى مرآة تمتصّ كلّ شيء، توهمه بأنّها تعيده إلى ذاته كما هو، دون أن يتفطّن إلى أنّها ابتلعته إلى الأبد. هذا ما يحدث تمامًا في “هوامش النشيد”، تلك النصوص التي تأتي بعد صفحة مظلمة وفيها “انظر إلى هذا الحزّ الطفيف في دائرة أيّامك، إنه يحافظ على انغلاقها، ويعد بأفق كاذب، سوف يكفي لتمشي في المتاهة إلى آخرها”، وفي آخر المتاهة “لا أراني واضحًا ومكتملًا في مرآتي التي تجري من تحتها الأنهار، خالدًا فيها احتراقي، دون أن يصلكم غبار رمادها، أيّها الغرقى”. لكنّه وَصَلَنا.
إنّنا ونحن نُنصت بالقراءة إلى نشيد سيّد السبت، إنما نقرأ ما يحدث لنا في تلك اللحظة. فسيّد السبت إله حوّل الخلق إلى منفى، وصاحب نشيد سيّد السبت شاعر جعل التلقّي (فعل القراءة) منفى. وسياج المنفييْن هو النشيد، إنه الشعر.
بكاء الفطام
لقد انبنى نشيد سيّد السبت على حركة شبيهة بحركة المتاريس، بل هي نفسها من حيث مبدئها الميكانيكي الأوّل ومن حيث اختلاف حركاتها باختلاف نوع المتاريس، فكان إيقاع النص على هذا النحو، نظامه التعاود على غير نظام واحد، فهو دائم دوامَ الحركةِ مِن جهةِ كَوْنِه نظامًا كلّيًّا، وهو منقطعٌ لكون الحركة لا تكون حركةً إلّا بعد سكون، صيرورته محكومةٌ بسيرورة المحرّك الأول، لا ذاك الذي لا يتحرّك، وإنما هو صورة الذات بكلّ تعقيداتها إذا شاءت أن تتركّب، وبكلّ بساطتها حين تشاء التوحّد، أي حين تصمت عن كلّ شيء سواها.
هذا الإيقاع الهجين، إذ لا هو فوضى ولا هو انتظام، أو هو كلاهما معًا تزامنًا وتلازمًا، هذا الإيقاع إذن هو موسيقى النشيد، نشيد الخلق، الخلق المتعاود في كلّ مرة بحكم دافعيْن اثنيْن: أمّا الأوّل فلكون الخلق وإن كان لحظةً مفارِقَةً في الأصل إلّا أنها ليست منقطعةً تحدث مرّةً وينتهي الأمر، بل هي ممتدّة في المخلوقات، دائمةٌ بدوامها، ولا يمكن للمخلوقات أن تنعدم كلّيًّا، فبانعدامها تسقط عن الإله صفة الخلق، إذ كيف يكون خالقًا دون مخلوقات؟
أمّا الثاني فلكون الخلق في “نشيد سيّد السبت” يفارق لحظته المفارِقةَ لينخرط في التجربة. فأشرف القرقني يخلع عن فعل الخلق صفةَ الكمال، أو بالأحرى يجعل كماله في كونه مجرّد إمكان من بين إمكانات لا نهائية. إنّ الخلْق هجين هو الآخر، خلق إلهي بمزاج بشري، وتحديدًا بمزاج طفل لا ندري متى يخرق قوانين اللعبة، بل إنّه قد يفاجئنا بكسْر اللعبة نفسِها.
حتى فعل الرفض والتمرّد يجريه صاحب النشيد على نحو مخصوص، فتصدّيه للإله لم يكن كفرًا به، بل هو يقرّه ويثبته، ومن ثمّ يحمّله مسؤولية ما حدث، وما يحدث، ويقترح عليه في كلّ مرّة إمكانًا آخر غير ما كان، مخالفًا لما هو كائن. وكأنّي بالشاعر يذكّر الخالق بكونه خالقًا، يذكّره بسفر التكوين، ويده خلف ظهره تمسك بسؤال جون دوغلاس ليفنسون، العالم الأميركي المختص في دراسة التوراة “ما مقدار التاريخ الذي يكمن وراء قصّة سفر التكوين؟”.
في "نشيد سيّد السبت" نحن إزاء خلْقٍ خُلعت عنه القداسةُ ليصبح فعلًا بشريًّا مشحونًا بكل التناقضات
أو بما يشبه هذا السؤال “لمن أخرج من بيتي، والضوء يلملم نفسه من زوايا العالم، ويخلع بابي، ضيفًا ثقيلًا سمجًا؟”، “لماذا جعلتني خبزًا يابسًا على موائدهم القذرة؟”.
ثمّ يدعوه إلى الإتيان بإمكانٍ آخر “إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ” بعد كلّ ما حدث من صَلْبٍ. إنّ الشاعر يضع الإله بعد كل الأعطاب التي أصابت العالم أمام خياريْن: إمّا أن ينفّذ هذه المشيئة ويأت بخلق جديد وإمّا أن يتخلّى نهائيًّا وإلى الأبد عن كونه الخالق.
غير أنّ الإله الذي يستهدفه سيّد السبت ليس إله أحد، لا اليهودي ولا المسيحي ولا المسلم ولا غيرهم. هو هكذا تحديدًا، إله اللّا أحد، ولا نقول هذا مجازًا ولا تأوّلًا، وإنّما التزامًا بما أقرّه الشاعر نفسه في الإهداء “هذا الكتاب مُهدى – دون شكّ – إلى لا أحد”، “لهذا توقّفوا عن الانتظار أيّها الحمقى. وأبعِدوا أياديكم المرتعشة عن سمائي. أنا لا أعد بشيء”.
وقد نصيب حين نكتفي بالالتزام دون التصديق، خاصّة وأنّ الشاعر ينسخ إهداءه الأوّل بإهداء ثانٍ (إلى محمد جلال) وهو طفل في الثالثة من عمره. وقد لا نطمئنّ إلى أنّ الأوّل يلغي الثاني، أفلا يكون هذا اللّا أحد هو الطفل الذي كانه الشاعر؟ ألا يكون هذا التمرّد القيامي المبثوث على امتداد النشيد ثورةً على الذات التي كبرت متخلّيةً عن طفولتها؟ أليس النشيد بكاءَ الفطام، أو ربّما هو اليتمُ مقلوبًا، يُتْمُ الذات بفقدان الطفل الذي انحدرت منه؟ ولا إلى هذا نطمئنّ أيضًا، فـ”منذ عشرين قرنًا، وأنا أتقدّم في طفولتي (…)”. بل إنّ الطفل هو من كان وراء كلّ هذا، إنّه هو سيّد السبت الذي “يحفر مجرى هبوط في لحظة، قاعُها الأبديّةُ”.
لقد بدأ النشيد من منفى مسيّجٍ، عابرًا صفحة مظلمةً إلى هوامشه، ليستقرّ في نَفْيٍ مطلق، بنسقٍ/ نفسٍ متدرّج نحو القرار/ القاع، كما تُختم التلاوات والخورسات والسيمفونيّات.
يقول الشاعر “أنا لستُ شيئًا آخر تمامًا”/ “أشرف القرقني. هذا ليس أنا. هذا اسمي فقط”/ “أشرف القرقني، هذا ليس اسمي”.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال