تونس، قلب الانتفاضة العربية النابض، تشهد منذ يوم الخميس الماضي إرهاصات انتفاضة جديدة انطلقت يوم تخليد الذكرى العاشرة لهروب زين العابدين بن علي في (14/11/2011) إلى المملكة السعودية. وتكاد الظروف المحيطة بالاحتجاجات الجديدة التي شملت شتى أرجاء البلاد تكون تكراراً لتلك التي أحاطت بالانتفاضة التي اندلعت في (17/12/2010) وصولاً إلى « 14/201111 » وكأن الثورة التونسية تودّ مواصلة الطريق من حيث انقطع.
وبالرغم من أن تونس نعمت بمناخ حقيقي من الديمقراطية الانتخابية والحريات السياسية منذ سقوط بن علي، فإن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية للغضب الشعبي لا تزال نوعياً على الحال التي كانت عليها قبل عشر سنين، بل تفاقمت الأوضاع كمّياً إذ بلغت البطالة الشبابية 36.5 بالمئة حسب الأرقام الرسمية التي لا تأخذ في الحسبان البطالة المقنّعة، أي الأعمال البائسة في القطاع «غير الرسمي» التي يضطر الفقراء إلى مزاولتها بالرغم من أنها لا تدرّ ما يسمح بالعيش بالمطلق، ناهيكم من العيش الكريم.
تغيير النظام السياسي في تونس لم يقترن بتغيير النظام الاجتماعي والنهج الاقتصادي، بل ازداد رضوخ الحكومات المتتالية منذ سقوط بن علي إلى ضغوطات المؤسسات المالية الدولية
وفي البطالة الشبابية مفتاح انفجار الانتفاضة الإقليمية انطلاقاً من تونس قبل عشر سنوات، وهو انفجار لا يمكن فصله عن حيازة هذه المنطقة على أعلى معدّلات بطالة الشباب في العالم. والحالة بالغة الخطورة في تونس: فإن استطلاعاً لرأي الشبيبة أجري قبيل ثورة «17 ديسمبر» أظهر أن 44 بالمئة تمنّوا مغادرة البلاد نهائياً، وهي أعلى نسبة بين البلدان العربية التي جرى فيها الاستطلاع. ولا شك في أن هذه النسبة قد ازدادت اليوم حيث تشير التحقيقات الصحافية والعلمية إلى تواصل انتشار رغبة «الهجرة إلى الشمال» في صفوف الشبيبة التونسية.
ذلك أن تغيير النظام السياسي في تونس لم يقترن بتغيير النظام الاجتماعي والنهج الاقتصادي، بل ازداد رضوخ الحكومات المتتالية منذ سقوط بن علي إلى ضغوطات المؤسسات المالية الدولية القاضية بتقليص أعداد الوظائف في القطاع الحكومي وإلغاء دعم أسعار السلع الضرورية بما يزيد البطالة ويثقل كواهل الفقراء. وقد فاقمت جائحة كوفيد-19 هذه الأوضاع متسببة بكساد اقتصادي على خلفية تسارع انهيار سعر صرف الدينار التونسي ومعه قدرة الشعب التونسي الشرائية.
أما الفرق بين ثورة «17 ديسمبر» والأحداث التي انطلقت يوم «14 يناير» الأخير، فيقوم على أن موجة الاحتجاجات كادت تقتصر حتى الآن على الشبيبة، ولاسيما المراهقين، بينما تقف في وجهها، وتندّد بها كالمعتاد باللجوء إلى «نظرية المؤامرة» وإدانة «أعمال الشغب» (إذ ليس من انتفاضة شعبية إلا وتخللتها أعمال شغب!) جوقة طريفة تمتدّ من حزب الحنين إلى دكتاتورية بن علي، الذي تتزعّمه النائبة عبير موسي، إلى حركة «النهضة» بزعامة راشد الغنّوشي، مروراً بحزب «قلب تونس» الذي يتزعّمه نبيل القروي، أحد أركان «التطبيع» مع الصهيونية في تونس، وقد ألقي القبض عليه للمرة الثانية في نهاية السنة الماضية بتهمة غسل الأموال والتهرّب الضريبي. وحتى رئيس الجمهورية قيس سعيّد، فقد أدلى بدلوه بالتحذير ممن «لا يتحرّك إلا في الظلام» بعد أن شبّه أعداء الانتفاضة سكوته إزاء الأحداث بسكوت دونالد ترامب إزاء أحداث الكونغرس الأمريكي قبل أسبوعين، وهو تشبيه بمنتهى السخافة.
هذا وتضع الأحداث الجارية «الاتحاد العام التونسي للشغل» مجدّداً أمام معضلته الرئيسية، ألا وهي تمثيل العاطلين عن العمل في مجتمع يشكلون قسماً كبيراً منه، وقسماً عظيماً من شبيبته. وتسلّط الأحداث الضوء على التعارض القائم بين اتحاد الشغيلة واتحاد أرباب العمل (أوتيكا) إزاء ضغوطات المؤسسات المالية الدولية التي يؤيدها أرباب العمل ويرفضها الشغيلة. والحال أن تونس لم تنفك تشهد انتفاضات محلّية انتقلت من منطقة إلى أخرى خلال السنوات العشر المنصرمة، بينما كان اتحاد الشغل مهتماً بالتعاون مع اتحاد أرباب العمل على ترتيب ائتلافات سياسية حاكمة بين أحزاب تلتقي جميعاً على تأييد النهج الاقتصادي ذاته الذي يعارضه الشغيلة. ولا مناص من الحقيقة التي تواجهها تونس منذ عشر سنوات وهي أن لا خروج لها من دوامة الأزمات بدون استكمال ثورتها السياسية بثورة اجتماعية تستبدل نظام الاستغلال والفساد بحكم ينتصر لمصالح العاملين والعاملات.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال