التقيتُ الإمام الصادق المهدي، زعيم طائفة الأنصار وحزب الأمة، رحمه الله، أول مرة في مطلع الثمانينيات، في منزله في قرية ميدنهيد الجذابة في ريف لندن الغربي. كنت وقتها بصحبة صديقنا الراحل وناشر مجلة آرابيا حيث كنت أعمل، محمد صلاح الدين، طيب الله ثراه كذلك. كان وقتها يقود المعارضة السلمية ضد حكم الرئيس جعفر النميري، من دون أن يختار المنفى.
هذه المقدمة ضرورية لتأكيد أن شهادتي في الإمام لا تقوم على لقاءٍ عرضي ومعرفة عن بعد. وبالطبع، بيننا خلاف في الرؤية حول بعض مواقفه السياسية، وبدرجة أقل آرائه. ولكنني لم أشارك يوماً من يعتبرونه مشكلة السودان الأساس، ويحملون عليه بعنف، ويروْنه شرّاً مستطيراً. وقد بينت في مقدمة كتابي "الثورة والإصلاح السياسي في السودان" تحفّظي على تحامل بعض منسوبي السفارة الأميركية في الخرطوم، عند لقائي بهم في مطلع التسعينات، عليه، خصوصا بعد أن لمتهم على تقصيرهم في دعم الديمقراطية في السودان، قائلاً، لو دعمتموها لما كنتم اليوم تندبونها. عندها ألقى قائلُهم باللوم على الصادق المهدي بالقول: "إنه خيّب آمال الجميع". وقد سمعت مثل هذه المقولات من كثيرين غيره، يُكثرون من لوم الإمام، ويحمّلونه كل خطايا الأمة، من دون أن يعطوا أنفسهم نصيباً من اللوم، خصوصا أنهم كثيراً ما تحالفوا معه.
ولج الصادق المهدي ساحات السياسة وهو بعد في العشرينات، وكان له دور مهم في ثورة أكتوبر 1964. وتولى رئاسة الوزارة عام 1966، وهو في مطلع عقده الثالث
وأذكر أنني، في رحلتي إلى الخرطوم التي صحبتُ فيها المهدي إلى الفاشر، تحدّثت مع أحد قادة الإسلاميين عن ضرورة دعم حكومة الصادق المهدي والتحالف معه، فقضى معظم الوقت يعدّد مثالبه، ويؤكد أنهم لا يمكن أبداً أن يلتقوا معه. ولم تنجح أيٌّ من حججي وتبريراتي معه. ولكن لم تمر أشهر معدودة على هذا اللقاء، حتى كانت الجماعة في حكومةٍ ائتلافيةٍ مع المهدي، وتبخّرت كل تلك الحجج غير القابلة للنقاش. (للأمانة، رفض المهدي نفسه، في مقابلته معي في 1986، أي تعامل مع الإسلاميين، قائلاً إنهم عبءٌ في التعامل مع الغرب، وفي التعامل مع الدول العربية، وفي جهود السلام، وهو تحليل صحيح).
وقد حفلت مذكرات ساسة سودانيين عديدين، وبعض المثقفين، بكثير من القدح في حق المهدي. كان هذا بدايةً من شريكه في قيادة حزب الأمة، محمد أحمد المحجوب، في سلسلةٍ لا يبدو أنها على وشك الانتهاء، فالكل لديه شكاوى وحكايات. ولعل هذا يعود إلى طول بلائه في أروقة السياسة السودانية، ما أكسبه منافسين وأعداء كثيرين، فقد ولج ساحات السياسة السودانية وهو بعد في العشرينات، وكان له دور مهم في ثورة أكتوبر 1964. وقد تولى رئاسة الوزارة عام 1966، وهو بعد في مطلع عقده الثالث. وقد سعى، في مطلع حكم النميري، إلى تفاهم مع نظامه، ولكن مبادراته رفضت. وقد لقي جزاءه سجناً ثم نفياً إلى مصر الناصرية مع غريمه زعيم الحزب الشيوعي السوداني، عبد الخالق محجوب. ولعل المفارقة أن مفاوضاته مع النميري قامت على مطلب إبعاد الشيوعيين من الحكم شرطا للتقارب، فكان نصيبه أن أبعد إلى المنفى في الطائرة نفسها مع محجوب! وقد تصالح مع النميري في 1977، بعد معارضةٍ بلغت حد المبارزة بالسلاح في محاولة انقلابية قادها المهدي عام 1976. ولكنه سرعان ما عاد إلى المعارضة، حين أيد النميري اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ثم عندما أعلن قوانين الشريعة الإسلامية التي رآها المهدي، مثل كثيرين، تشويهاً للإسلام.
رفض المهدي نفسه، في مقابلته معي في 1986، أي تعامل مع الإسلاميين، قائلاً إنهم عبءٌ في التعامل مع الغرب، وفي التعامل مع الدول العربية، وفي جهود السلام
وكانت فترته الثانية في رئاسة الحكومة عام 1986 مثل سابقتها، قصيرة، وحافلة بالصراعات والمنافسة والأزمات. ففي الحالين، واجه حرباً أهلية لم يكن هو من أشعلها، ولكنه عجز عن إطفائها. كان منافسوه من داخل حزبه (وحتى من داخل أسرته الكبيرة)، ومن خصومه الآخرين، له دائماً بالمرصاد، حتى وهم في ائتلافٍ معه. وقد اتهم، في أكثر من مرة، بأنه اختلق أزمات، أو ساهم في خلقها أو احتدامها، مثل أزمة حل الحزب الشيوعي في الستينات، ومثل الحرب الأهلية التي ظلت محتدمة في ولايته الأولى ثم الثانية.
في المعارضة أيضاً واجه تحدياتٍ، فقد انفرط عقد الجبهة الوطنية التي قادها ضد الرئيس النميري في السبعينات، بعد أن نجحت مبادرة المصالحة مع النظام عام 1977. أما مساهمته في التجمع الوطني الديمقراطي فقد انتهت بدورها في 1999، حين قرّر المصالحة مع نظام عمر البشير، قبل أن يعود إلى المعارضة بسرعة.
إلا أن أهم ما يحسب للإمام الصادق المهدي أنه كان ديمقراطياً بالمزاج والفطرة والتوجه. ولعله السياسي السوداني الوحيد الذي التزم بالديمقراطية قولاً وعملاً طوال حياته السياسية. وكانت أولى مبادراته، في هذا المجال، إنشاء تحالف القوى الجديدة في منتصف الستينات، وكان التحالف السياسي الوحيد الذي شمل أحزاباً من الجنوب والشمال. وقد ظل دائماً داعيةً إلى التعددية، رافضاً الإقصاء. وكان المهدي كذلك من بين القلة من السياسيين السودانيين ذوي الإنتاج الفكري المتدفق، فقد كتب، في شبابه، مؤرّخاً لحركة الأنصار، ودورها في العمل الوطني. وقد غازل في شبابه الاشتراكية وهو بعد طالب في أكسفورد، حتى أن بعض خصومه اتهموه بأنه كان شيوعياً. كانت له مساهماتٌ كثيرة في تطوير الفكر الإسلامي، وأكثر من ذلك في محاولات تعزيز الديمقراطية في السودان والعالم العربي.
ديمقراطي بالمزاج والفطرة والتوجه. ولعله السياسي السوداني الوحيد الذي التزم بالديمقراطية قولاً وعملاً طوال حياته السياسية
ولعله من بين القلائل من الساسة السودانيين ممن فاقت إيجابيات مساهماتهم في كل المجالات، من فكرية وسياسية واجتماعية، سلبياتها، فلم يُحسب عليه، في الحكم ولا المعارضة، ارتكاب الفظائع والكبائر، كما أنه لم يتّهم بفساد أو إثراء على حساب الشعب، ولم يمارس الإقصاء أو القهر في حق أحد. غاية ما يتهم به التقصير، ومن منّا لا يقصّر؟ لهذا السبب، يدشّن رحيله عهداً جديداً في تاريخ السودان، فقد كان دائماً رجل الملمات، ومحور الحراك السياسي. لم يقم تحرّك مهم منذ ثورة أكتوبر 1964 إلى ثورة ديسمبر 2018، إلا وهو في القلب منه. الآن وبعد رحيله، لا بد على الأقل لمنافسيه سابقاً في الساحة السياسية من أن يجدوا جهةً جديدةً يلقون عليها باللوم في تقصيرهم وفشلهم. ونأمل أن يستطيع حزب الأمة بعده أن ينهض نهضةً كبرى، تبدأ بالتوسع خارج دائرة العائلة الضيقة، وأن يغادر نوعاً ما نطاق الطائفة.
ألا رحم الله عبده الصادق بن الصديق بن عبدالرحمن بن محمد أحمد (المهدي)، وأحسن إليه، وجزاه خيراً عن بلائه في خدمة دينه ووطنه، وغفر لنا وله الخطايا والذنوب.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال