اعتاد العرب أن يرددوا، من وحي أثرهم الأدبي والقيمي، أن "الحرب أولها الكلام"، في تكرار دائم لما قاله نصر بن سيار الليثي الكناني، آخر ولاة الأمويين على خراسان، حين أنشد: "إن النار بالعودين تُذكى/ وإن الحرب مبدؤها كلام...".
الوقائع معروفة بطبيعة الحال، لكن السؤال: لماذا رفعت الجزائر، الحاضنة الدبلوماسية والترابية والمالية والجيو - اسراتيجية للبوليساريو من نبرة الحِرابَة، في حين يلزم المغرب، الذي يتحكّم ميدانيا في الواقع، الهدوء والتروي؟ الجواب بسيط، لأن طرفا يقرأ تطوّرات الواقع بما هي إيجابية له، في حين يرى الطرف الآخر أن البساط يسحب منه، دوليا واستراتيجيا، ولم يعد له تأثير على مستجدّات الملف، ويريد تحريكه بأدبيات الحرب والطبول. التوقيت أولا: يعدّ شهر أكتوبر/ تشرين الأول الموعد السنوي لدى مجلس الأمن، لإصدار قراراته بشأن الصحراء، من جهة تجديد بعثة الأمم المتحدة في الصحراء (المينورسو)، ثم إقرار الخطة المستقبلية للنزاع في المنطقة. وقد اعتادت المنطقة، والصحراء خصوصا، أن تعرف تسخيناتٍ للتأثير على قرارات الدول الكبرى، وهو ما بدأ يحدُث انطلاقا من العشرين من أكتوبر 2020. فيه، استقدمت "بوليساريو" مجموعة من النساء والشباب، تحت ذريعة المجتمع المدني، محاطين بمجموعة من المسلحين. وكان الانطباع العام أن هذه التحرّكات تدخل في التمرين الاعتيادي مع مطلع شهر أكتوبر، وستنتهي بمجرّد صدور القرار.
بالنسبة للرباط يتعلق بعملية مدنية، تأمينية، قام بها الجيش المغربي لإعادة الوضع إلى أصله، في منطقة الكركرات
صدر القرار الأممي، واعتبرته المملكة انتصارا محقّقا، لأنه كرَّس منعطفا تاريخيا، واستراتيجيا كبيرا في الصراع، وفي طبيعته ومنتهاه وفي أوالياته. ومن ذلك أن قرار مجلس الأمن 2548 لم يتحدّث عن شيء اسمه الاستفتاء، مزكيا بذلك قرار السنة الماضية والتي قبلها، إضافة إلى ذلك وضع مكانه تدبير الملف "بالموائد المستديرة"، فسقطت قاعدة أساسية في المنظومة التي دافعت عنها "بوليساريو"، ورعتها الجزائر قرابة 45 سنة.
العنصر الثاني الجديد ترسيم دولة الجزائر طرفا أساسيا في المفاوضات، للمرة الثانية على التوالي، في تحوّل عميق، طالما طالب به المغرب، وهو أن النزاع ليس ثنائيا، بين المغرب والانفصاليين في شخص "بوليساريو"، بل هو نزاع إقليمي للجزائر فيه مسؤولية كبيرة للغاية، بحسب الرسالة التي وجهها ملك المغرب، محمد السادس، إلى الأمين العام أنطونيو غوتيريس في مارس/ آذار 2018، أن الجزائر "تحتضن وتمول وتدعم وتسلح"... وهكذا جاء القرار الجديد متحدّثا عن الأطراف الرئيسية في النزاع، إضافة إلى المغرب و"بوليساريو"، هناك الجزائر وموريتانيا.
يتعلق التحول الثالث والجوهري بنهاية النزاع، وكيف يجب أن يكون الحل، ففي الحين الذي قامت فيه الأطروحة الانفصالية على استفتاءٍ يقود إلى تقرير المصير، بما هو قيام دويلة في الفاصل الترابي بين المغرب وموريتانيا، تحوّلت الأطروحة المركزية لدى مجلس الأمن والأمم المتحدة إلى حل سياسي سلمي، براغماتي متوافق عليه من جميع الأطراف. مع تنويه خاص بمقترح الحكم الذاتي المغربي، الذي وصف بأنه "جدي وذو مصداقية". وهذا الأمر هو الذي جعل ملك المغرب يقول، في خطاب ذكرى المسيرة الخضراء، إن "الأمم المتحدة أقبرت كل الأطروحات المتجاوزة". وتحوُّل مثل هذا أثار حفيظة الطرف الآخر الذي سعى إلى تقويض هذا التوجه، والعمل بمخطط بديل.
وعوض الانسحاب من الكركرات، كما كان منتظرا، سعى إلى إقامة مخيمات فيها، ثم مراقبة حركة التنقل واستخلاص رسوم العبور، قبل إغلاق الممر البرّي جملة وتفصيلا. وهو في ذلك كان يهدف إلى ضرب سربٍ من الطيور بعثرةٍ واحدة، وعلى الأقل ما يلي: السعي إلى تفنيد تقرير الأمين العام، وقرار مجلس الأمن بخصوص سيادة الهدوء في المنطقة، وإثبات أن الـ"قضية" لم تُقبر، وأن التوتر سيد الواقع. التأكيد أن النزاع هو بين المغرب و"بوليساريو"، وأنه ثنائي، وحله ليس رباعيا. وقف التنقل بين المغرب وجنوبه الأفريقي، بما يشكل عرقلة في وجهه لرسملة فوائد عودته إلى أفريقيا وترصيد هذه الفوائد. وبالتالي حرمانه من الاستفادة من العمل الذي قامت به دبلوماسيته، سواء في الاتحاد الأفريقي أو من خلال فتح دول أفريقية عديدة خصوصا قنصلياتها في العيون والداخلة في الصحراء.. والدليل على ذلك، أن "بوليساريو" قامت بالشيء نفسه، في سنوات 2016/2017/2018، عندما كان المغرب يسعى إلى العودة إلى الاتحاد الأفريقي، وكانت الجزائر تناهض ذلك، أو عند تنظيم القمة الأفريقية حول المناخ. جرّ المغرب إلى رد الفعل، والتدخل من أجل العودة إلى الوضع المنصوص عليه في الاتفاق العسكري رقم 1، وقرار وقف إطلاق النار الساري في المنطقة منذ قرابة ثلاثين سنة، بعد الحرب من 1975 إلى 1991..
ما تم أن المغرب أجرى اتصالاته مع الدولتين المعنيتين في الجوار (موريتانيا وإسبانيا)، وكذا الدول المعنية بالقرار الأممي، الأعضاء في مجلس الأمن. وأعقب ذلك دخول قواته المسلحة لتأمين المعبر في عملية مدنية، يقوم بها الجيش. وكان واضحا أن الجبهة سارعت إلى استغلال ذلك فورا، لإعلان وقف إطلاق النار، والتحلل من المشاركة في العملية السياسية القادمة التي دعا إليها قرار مجلس الأمن. وسارع المغرب إلى التعبير مجدّدا عن تمسكه بقرار وقف إطلاق النار، في مكالمةٍ مع الأمين العام للأمم المتحدة، مع التزامه بالمسار السياسي السلمي. هذا الواقع الدبلوماسي البارد والموضوعي، رافقته حربٌ شعواء من البيانات ومن الفيديوهات حول حروبٍ، لا يبدو أنها تقع في منطقة أخرى من العالم بمثل الضراوة التي ترد في البيانات، وفي القصاصات الصادرة عن الوكالات التابعة للجزائر و"بوليساريو"... سيل من البيانات العسكرية التي تعود بنا إلى سنوات السبعينيات والستينيات. وكان لافتا أن الجيش الوطني الشعبي الجزائري، بعد يومين من التدخل العسكري في الكركرات لتأمين العبور والتنقل، والربط بين موريتانيا والمغرب، نشر فيديو يقول فيه قائده الجنرال سعيد شنقريحة إن "الجزائر هي أقوى دولة في المنطقة"، وإنها قادرة على خوض "حروب على كل الجبهات"، وإن القضية الصحراوية "قضية الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة للجزائر"، مع موسيقى المارش العسكري، واستعراض الصواريخ الباليستية الطويلة الأمد، ومنها ألكسندر الروسي. وكان لافتا أيضا خروج الصحف الجزائرية، كلها تقريبا، بهجومٍ منسق، تعتبر فيه، ربما لأول مرة بهذا الأسلوب الواضح والشفاف، أن قضية "الصحراء قضية عمق استراتيجي وأمني للجزائر"، وأن من "يقارب من الجزائر سيحترق"، إلى غير ذلك من الأدبيات الحربية الغريبة حقا عن دولةٍ تقول إنها غير معنية بهذا النزاع!
في حقيقة الأمر، هناك مساران: سياسي أممي جديد، يبدو أن المغرب في طوره إلى الفوز به، سيما وأن 85٪ من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لا تعترف بجمهورية بوليساريو، وأن 13 دولة من أصل 15 في مجلس الأمن تصوت عليه وتدعم منطلقاته وأهدافه ووسائل تطبيقه. ومسار سياسي متجاوز، جعل "بوليساريو"، والحاضنة الإقليمية لها، في وضع صعب، ليس أمامها سوى تلويحتين، الأولى بالحرب، والثانية بالانسحاب من المسلسل السياسي نفسه. وهو خيارٌ ليس سهلا في وضعية إقليمية وقارّية ودولية متشابكة المعادلات.
المغرب اتصل مع موريتانيا وإسبانيا، وكذا الدول المعنية بالقرار الأممي، الأعضاء في مجلس الأمن، قبل الدخول إلى الكركرات
كما أن قرار الحرب ليس قرارا دائما مستقلا لمن يريده!.. هناك "لاشعور" تاريخي يسير في اتجاهين متناقضين، الأول إيجابي، سنَّهُ الحسن الثاني وواصله خليفته على العرش: العمل بقاعدةٍ خلقيةٍ وسياسيةٍ مفادها بأنه لا يجب دفع الخصم إلى اليأس. ولذلك قبل الملك الراحل أن يوقع اتفاق إطلاق النار في العام 1991 والحرب الأهلية الجزائرية بين الإسلاميين والنظام في أوجها الدموي، ولم يستغلّ الظرف الداخلي للجارة الشرقية من أجل حسم النزاع وقتها في الصحراء نهائيا. وشاهدنا الروح نفسها مع العاهل المغربي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، في دعوته إلى "تشكيل لجنة عليا مشتركة للنظر في القضايا الخلافية بين البلدين"، وإلى "وضع حد للتفرقة والشقاق مع الجزائر".
للأسف، النظام في الجزائر، عند المغاربة، يقرأ الوقائع، من زاوية ضعفه أو ضيقه. في هذه الفترة، وجد في مرض الرئيس عبد المجيد تبون، وغيابه عن بلده، مبرّرا لكي تستدعي من لاشعورها السياسي هذا، كما كتبت صحفها ذلك. والواقع أنه لا علاقة لمرضه بانتظام الأجندة الدولية التي تجعل أكتوبر شهر الصحراء في مجلس الأمن الأممي، والمغرب لم يختر هذا الشهر في تزامنٍ مغرضٍ مع مرض الرئيس... وفي وقائع الحياة اليومية، ليست هناك حرب في الصحراء، والميدان يتجه بعيدا عن طبولها، والبيانات هي آخر ما تبقى منها عمليا. لهذا سيكون علينا أن نقول عكس ما قاله نصر بن سيار الليثي الكناني:
الحرب.. آخرها الكلام.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال