تابعنا باهتمام الحراك الشعبي في الجزائر، وعبرنا عن إعجابنا وفخرنا في أكثر من مقال ومحاضرة، برقي وحضارية حراك الشعب الجزائري، ولم نخجل من إظهار هذا الاعجاب، وأشدنا بموقف الجيش والأمن الجزائري الذي غلب خيار ضبط النفس والتسامح مع الإحتجاجات بدلا عن القمع وسفك الدماء، والوقف البطولي والرجولي للمرحوم “قايد صالح” الذي لعب دورا محوريا في تجنيب البلاد مخاطر الانزلاق لعشرية سوداء أخرى.. وموقفنا هذا نابع من تقديرنا لهذا الشعب و خاصة بالنسبة لنا نحن المغاربة، فعلاقة الشعب المغربي بالشعب الجزائري هي علاقة أخوة ونسب و قرابة الدم و تاريخ مشترك، فكاتب المقال يذكر منذ طفولته أن جده رحمه الله باعتباره من كبار المزارعين بضواحي الرباط، كان يبيع أغلب محصوله الفلاحي خلال خمسينات و ستينات القرن الماضي، لتجار يأتون من الجزائر محملين بمنتجات جزائرية، ويقيمون عنده في مضيفته إلى حين إكمال الشحنة، وبالمثل كان كثير من المغاربة والجزائريين يرتبطون بعلاقات تجارية وعلاقات نسب ولا فرق بين المغربي والجزائري على الإطلاق.. لكن شاءت السياسة والسياسيين أن يفسدوا هذه العلاقات الطيبة بإتباع سياسات عدوانية لا أدرك في الواقع ما الغاية منها ، لكن أدرك جيدا أنها لا تحقق بالمطلق مصالح البلدين والشعبين الشقيقين، و إنما تخدم مصالح القوى الأجنبية وفي مقدمتها المستعمر الفرنسي والإسباني والإيطالي.. ومقالي هذا موجه إلى شعوب المنطقة المغاربية، وغايتنا تجاوز الخطابات السياسوية ضيقة الأفق، وتغليب منطق التعاون والتكامل و البناء المشترك، بدلا من الاستمرار في سياسات فارغة المحتوى، ولا جدوى منها إلا تعميق فجوة الخلاف وهدر الموارد وإضاعة الفرص…
و ما دفعنا إلى كتابة هذا المقال وإطالة المقدمة، هو تصريح الرئيس الجزائري “عبد المجيد تبون” لجريدة “لوفيغارو” الفرنسية، والذي قال فيه أن ثوثر العلاقات الفرنسية الجزائرية ناجم عن الدور السلبي الذي يلعبه اللوبي المغربي- الفرنسي الذي لايريد لفرنسا أن تطور علاقتها مع الجزائر…وهو ما يعني أن المغرب يريد أن تخصه فرنسا بعلاقات فريدة ومميزة عن علاقتها بالجزائر، وأن الخلاف بين فرنسا والجزائر سيخدم بتبعية مصلحة المغرب… والواقع أن تصريح الرئيس الجزائري كان مجانبا للصواب، ففرنسا تصور لكل بلد أنه هو الأفضل لها وسياستها قائمة على قاعدة “فرق تسد” وبموجب هذه السياسة تحلب كلا البلدين و تدفع كل بلد إلى تقديم الغالي و النفيس للحصول على ود فرنسا… وأي ود هذا؟!
فتاريخ فرنسا سيء فهي من إستعمرت الجزائر لنحو قرن من الزمن و حاولت فرنسة البلد و جعله مستوطنة فرنسية، ولمقاومة هذا المحتل قدم الشعب الجزائري ملايين الشهداء و ثورته على المستعمر الفرنسي خلدها التاريخ كما أن جرائم فرنسا في الجزائر لن تزول بالتقادم فهي محفورة في ذاكرة كل طفل جزائري… وبنفس الأسلوب احتلت فرنسا المغرب وانتفض الشعب المغربي ضد المحتل، وقدم أيضا ألاف الشهداء..ففرنسا إغتصبت سيادة بلداننا و سفكت دماء شعوبنا ونهبت ثروات بلداننا ولازالت تنهب هذه الثروات، تحت مسميات مختلفة من قبيل التعاون الوثيق والاستثمارات الفرنسية والفرنكفونية… والواقع أن التبعية العمياء لفرنسا سبب في فشل التنمية في كلا البلدين ولكم الأسباب الموضوعية لهذا الحكم..
أولا – فرنسا ليست هي اليابان: فكلا البلدين تورط في سياسة الاحتلال، فاليابان إحتلت كوريا وماليزيا والصين قبيل الحرب العالمية الثانية، لكنها فيما بعد إعتذرت عن سلوكها و كفرت عنه بدعم جهود التنمية في بلدان شرق أسيا، فنهضة كوريا الجنوبية كانت نتاج للدور الايجابي الذي لعبته اليابان، ونفس الشيء في ماليزيا والصين ومن يريد أن يطلع فليعد إلى مذكرات “محمد مهاتير” ومقالات الكاتب حول نهضة الصين وماليزيا …لكن في الحالة الفرنسية فالوضع مغاير، فهي لازالت تتعامل مع البلدان المغاربية على أنها محميات فرنسية، و نجاحها في ذلك نابع من ضعف الأنظمة السياسية و رهاناتها الخاطئة على فرنسا..
ثانيا- مصلحة البلدان المغاربية في الوحدة و التكتل :
و كلامنا هذا لا ينطلق من أساس عاطفي، أو عداء لفرنسا و لكن لأن الواقع الدولي و الاقليمي و المؤشرات الكمية و النوعية، والتجارب الدولية، تؤكد فعالية التكتلات الإقليمية، ودورها في التنمية الإقتصادية، وإيجاد مناطق أمنة وجاذبة للاستثمارات و للكفاءات، و لنأخذ العبرة من علاقة فرنسا بألمانيا، مادامت فرنسا هي قدوتنا وسيدنا المطاع…فتعاون المغرب و الجزائر هو في مصلحة كلا البلدين، لأنه سيقود إلى تفعيل حلم يراود كل مغاربي وهو المغرب العربي أو المغرب الكبير، بل هو حلم راود الرعيل الأول من رجال المقاومة و التحرير، فهذه البلدان وهي تحت الاحتلال الفرنسي، شكلت نواة مقاومة شملت بلدان المغرب و الجزائر وتونس، فمعركة الاستقلال والتحرر كانت معركة مغاربية، توحدت فيها جهود المقاومين قادة و شعوبا، غير أن جيل الاستقلال سلك منهجا مغايرا، إذ تم تبني سياسات ذات نزعة وطنية ضيقة الأفق، بل شهدت حروبا و نزاعات حدودية بين المغرب و الجزائر وبلغ النزاع ذروته، ليصبح حربا ساخنة في فترة “حرب الرمال” و انتقل إلى حرب باردة أو بالوكالة بعد 1975، بفعل انفجار قضية الصحراء..
وطيلة الفترة من الاستقلال إلى 1989، شهدت بلدان الإقليم محاولات للوحدة، فكانت الوحدة بين ليبيا وتونس، و ليبيا و المغرب ، لكن هذه المبادرات كانت غير واقعية، وخاضعة للمزاج السياسي، لكن في 1989 بمدينة مراكش أعلن قادة خمس بلدان مغاربية:(المغرب+الجزائر+تونس+ليبيا+موريتانيا) عن ميلاد اتحاد المغرب العربي، غير أن هذه الخطوة ظلت حبرا على ورق و لم تعقبها خطوات فعلية في المجال السياسي و الاقتصادي …ففشل اتحاد المغربي لم يكن نتاج لعدم فعالية الفكرة، وإنما لعدم وجود إرادة سياسية توافقية، تغلب منطق العام على الخاص، و الإقليمي علي الوطني، و الاقتصادي على السياسي، و التنموي على الأمني…لكن فكرة الوحدة المغاربية ناجحة و ذات جدوى من الناحية التقنية و السياسية و الأمنية..
ثالثا- الجدوى الاقتصادية و الجيوسياسية للتكتل المغاربي:
الوحدة بين بلدان الاقليم ستفرز فضاء إقليمي له إمكانات بشرية في غاية الأهمية: فعلى المستوى البشري سوق استهلاكي يتجاوز 100 مليون نسمة، ورأسمال بشري متنوع من حيث الثقافة، ومن حيث الكفاءات البشرية ومن حيث الاحتياجات.
إقتصاديا ناتج قومي إجمالي يقترب من عتبة 300مليار دولار سنويا، وفي حالة الوحدة من المرجح ان تقترب لتريليون في ظرف أقل من عقد، كما سينتقل معدل النمو الاقتصادي في الإقليم لأزيد من 9 في المائة و لمدة عقد وأزيد ، شريطة توفر سياسات اقتصادية و إجراءات نقدية و مالية مواكبة…
جيواستراتيجا: تكتل مغاربي بسياسات و مواقف موحدة، يعني قدرة تفاوضية في غاية الأهمية و التأثير، لاسيما و أن الموقع يتيح خصائص جيواستراجية ناذرة، فالاتحاد يتواجد على واجهتين بحريتين، و ممر دولي حيوي للملاحة الدولية و للكابلات الدولية،وهو همزة وصل بين إفريقيا و أوروبا،و دوره في التأثير على السياسات الدولية في قضايا الهجرة و الجريمة العابرة للحدود ، سيكون جد مؤثر ويحقق لبلدان الإقليم مكاسب اقتصادية و سياسية يصعب الحصول عليها بشكل منفرد…
و إلى جانب هذه المزايا، الاتحاد هو خطوة سياسية كفيلة بتجنيب المنطقة النزاعات والثوثرات الحدودية، و كفيل بإيجاد تسوية شاملة للميول الإنفصالية سواء بداخل المغرب أو الجزائر او ليبيا، بفعل وجود خصوصية ثقافية أو إثنية..وهو حل عملي موضوعي لنزاع الصحراء..فثمار الوحدة لها تأثير مباشر على المواطن، لأن التكتل سيخلق دورة حميدة على المستوى الاقتصادي و التنموي، فهناك تكامل اقتصادية بين البلدان الخمس، فاحتياجات الجزائر او ليبيا باعتبارهما بلدان نفطية، يمكن للاقتصاد المغربي او تونسي أن يغطيها والعكس صحيح، فالوحدة ستولد طلب على مستوى الاستهلاك الخاص أو العام، وسيتيح سيولة مالية بين بلدان الإقليم و هو الأمر الذي سيؤثر على الاستثمار ، ويحفز الإنتاج الصناعي و الزاعي و الخدمي…من الصعب حصر المكاسب، فمكاسب الوحدة تفوق الخسائر المحتملة، وليس هناك خسارة و هدر تنموي، أكبر من الاستمرار في السياسات الوطنية و الإنكفائية، و المنفتحة على أروبا أكثر من انفتاحها على بلدان الجوار، فحجم التجارة البينية بين بلدان الإقليم لاترقى لمستوى مثيلاتها مع بلدان أروبا…
و على العموم، نتمنى صادقين أن يتم تجاوز منطق الحرب الباردة و التصريحات النارية بين المغرب و الجزائر والسباق المحموم باتجاه كسب ود فرنسا، و أن تتجه الجهود نحو تبني إجراءات تشجع على إطلاق سباق التعاون و الوحدة، ونبذ الخلافات السياسية وترحيلها، أو تجاوزها بشكل مؤقت، و فتح الحدود في وجه حركة السلع و الأشخاص و رؤوس الأموال خاصة بين المغرب و الجزائر، بغرض تعزيز التجارة البينية و التكامل الاقتصادي، فالمصالح الإقتصادية محايدة و لا تخضع لمنطق الخلافات السياسية، لاسيما و أن ثمار الوحدة إقتصاديا جد مجدية…
ومن المؤكد، أن طريق الوحدة ليس بالسهل، فالمتغيرات الدولية و الإقليمية، تفضل التعامل مع البلدان المغاربية بشكل منفرد،أما في حالة التكتل فذلك سيخلق موقف سياسي إقليمي صلب، و له من أدوات الضغط و التأثير ما يجعله قادر على التعامل مع مختلف البلدان و القوى العظمى دون مركب نقص… و تغليب المصالح الوطنية و الإقليمية، على الأحقاد و الخلافات الشخصية، كفيل بتحقيق حلم مغاربي يراود شعوب الإقليم، ولو تحقق ، لتغير وجه المنطقة و لأصبحت من أكثر مناطق العالم جذبا للإستثمار و للكفاءات…
فإهمال تكتل المغرب العربي فيه مجانبة للصواب، وابتعاد عن أقصر الطرق وأقلها تكلفة وأكثرها نفعا، فمصلحة الشعب المغربي وباقي الشعوب المغاربية تقتضي تفعيل هذا التكتل على اعتبار أن مثل هذه المبادرة السياسية فيها مصلحة ظاهرة لكل شعوب الإقليم، نظرا لتقارب المستوى التنموي بين الأطراف وأيضا في ذلك تأثير مباشر على استقرار المنطقة وتنميتها ..
نتمنى أن نشهد في القريب العاجل إحياءا لهذا المنتدى وتفعيل العمل المغاربي المشترك وتجاوز الخلافات البينية، ودعوتي هذه موجهة إلى كل الحكام المغاربة بدون استثناء، فرغبة الشعوب في الوحدة لا زالت قائمة والقواسم المشترك أكثر من نقاط الخلاف، لكن ما ينقص هو الإرادة والجرأة السياسية لإزالة جدران الخلاف والشقاق وتغليب منطق التعاون والتضامن…و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
د. طارق ليساوي - أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال