أصبح شارع 14 يناير في العاصمة تونس منذ اندلاع الثورة وتغيّر ملامح الحياة السياسية للبلاد مسرحا للعديد من الظواهر المجتمعية التي رافقت التغيّر الجذري في الفكر والتعبير لدى التونسيين، وبعد أن كان هذا الشارع تحت سيطرة وزارة داخلية الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي بات اليوم الركن المفضل لفناني وعازفي الشوارع.
ويعبق هذا الشارع الذي احتضن الثورة التونسية كل مساء بمعزوفات ومقطوعات غنائية شبابية وتراثية وحتى رقصات عفوية من بعض المارة، على وقع ما تجود به الأوتار والدفوف التي تداعبها أيادي شبان معدل أعمارهم لا يتجاوز العشرين عاما أعطوا المكان بعدا ونسقا جديدين.
وتعرف أماكن وجودهم بأصوات الغناء والمعزوفات الموسيقية الجماعية والمنفردة أحيانا وبالتجمعات التي يشكلها حولهم المتفرجون على اختلاف أعمارهم وانتماءاتهم، والتي تتوزع في عديد النقاط من هذا الشارع الذي يعد الأكبر على الإطلاق في العاصمة التونسية.
مواقف مختلفة
تثير طريقة تلقّي عازفي الشوارع للهبات المالية التي يقدمها المارة والمتفرجون مواقف متباينة، إذ يعتبرها البعض معطى وسلوكا دخيلا وقع استيراده من الغرب ارتبط بطرق منمقة للتسول، بينما يرى شق آخر أن الهدف هو تشجيعهم على مواصلة هذا النشاط المحمود بدل الانحراف وتبعاته.
يحتضن شارع 14 يناير معزوفات شبان معدل أعمارهم لا يتجاوز العشرين عاما (الجزيرة)
يقول العازف الشاب يوسف بن مرزوق (18 سنة) أنه لم يفكر ولو للحظة فيما يمكن أن يجنيه من مال مقابل معزوفاته، بل حمل قيثارته لينضم إلى إحدى المجموعات في الشارع بصفة عفوية أراد من خلالها إبراز مهاراته في العزف وجذب اهتمام الناس من حوله كشاب يسعى إلى إثبات ذاته لا أكثر.
ويضيف للجزيرة نت أنه وجد الدافع نفسه لدى زملائه وغيرهم من العازفين السابقين الذين تهاطلوا على شارع 14 يناير عقب فرار الرئيس الراحل كنوع من التعبير عن الانعتاق من براثن الدكتاتورية والإلجام وتدجين الفنانين، وأن جني المال لم يكن شيئا مطروحا بتاتا، على حد تعبيره.
وترى سيرين (17 سنة) وهي مرافقة لإحدى مجموعات العازفين أن وضع قبعة أو قطعة قماش يضع فيها المتفرجون هبات مالية رمزية عادة غربية لا تحيل بالضرورة على التسول، إنما يعتبرها عازفو الشوارع مقياسا لاستحسان المستمعين لمعزوفاتهم ولقدرتهم على جلب الانتباه وتجميع المارة حولهم.
تيارات فنية
تتعدد المشارب الفنية والموسيقية لهذه الفئة من العازفين، وتتراوح بين معزوفات لأغان غربية ترتكز أساسا على رومانسية اللحن والهدوء، وأخرى احتفالية ترتبط في الذاكرة الشعبية التونسية بمظاهر الفرح والاحتفال، دون أن ننسى الأغاني الثورية التي تسرد يوميات الشباب بين الحلم والواقع الصعب.
يقول مروان (21 سنة) إنه تعود منذ أكثر من ثلاث سنوات على العزف في الشارع، وإن تميزه في توزيع الألحان الغربية وتقديمها بآلة القيثارة مكنه من كسب جمهور كبير من المارة، ويعتبر نفسه قد خرج بفنه من الجدران الضيقة إلى المقاهي الفخمة ورحابة الشارع ليصل لجميع الناس والفئات.
يعتبر عازفو الشوارع في تونس الهبات المالية من المارة مقياسا لاستحسان المستمعين لمعزوفاتهم (الجزيرة)
يرى أشرف (18 سنة) أن الفنان الحقيقي هو الذي يتمكن من إسعاد الناس حوله دون أن يفرض لونا فنيا معينا، مضيفا أن اختيار المعزوفات والأغاني يخضع للظرف العام للبلاد الذي تلمحه بسهولة على الوجوه والملامح، لذلك يعمد رفقة زملائه إلى التمرن على جميع الأنماط الموسيقية دون استثناء.
ويلاقي أداء عازفي الشوارع استحسان مرتادي شارع 14 يناير وعلى اختلاف الفئات الاجتماعية والعمرية والفكرية أيضا التي يشي بها الهندام أحيانا، إلا أنهم يبدون في غالب الأحيان تفاعلا كبيرا مع المعزوفات والأغاني عن طريق الإنصات بانتباه شديد أحيانا، والتصفيق وحتى الرقص أحيانا أخرى.
معزوفات ورسائل
تشي ملامح العازفين وهندامهم بولادة تيار فني شبابي جديد في تونس، فتقليعات الحلاقة وأسلوب اللباس يحيلان على تأثر ثقافي جلي وانبهار بالحياة في المجتمعات الغربية في كثير من تفاصيلها.
لكن المفارقة التي تفرض نفسها على المشهد هي الترجمة الفنية لواقع البلاد والتشبث بمخزونها الفني التراثي كجزء لا يغيب عن جل العروض التي تقام على الأرصفة وبين فلول عابري الشارع.
شباب يسعى في الظاهر لتقليد الغرب، لكنه يحمل في الآن ذاته رسائل لا تحتمل تأويلات سطحية توغل في سرد فرضيات الأهداف والانتماء، هم ببساطة أبناء تونس وستحملهم الحياة حتما إلى معتركات وشوارع أخرى مختلفة، عسى أن يأتي عازفون آخرون يؤنسون وحشة البسطاء وأرصفة شارع الثورة كي لا يصمت من جديد.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال