لم أعلق على الأزمة الإيرانية الأمريكية الأخيرة منذا البداية لسبب بسيط، لقد صور لنا مقتل قاسم سليماني كما لو انه يمثل نهاية للنفوذ الإيراني ونزع جذر الداء عند من يعتقد ان إيران إرهابية (بالمناسبة الكل ينعت نقيضه أو عدوه بالإرهابي والقصف بالنعت متبادل بين النقيضين)، والواقع أنه في هذه الحالة ، قتل جنيرال يخلفه جنيرال آخر في جهاز عسكري معين من منطلق ان الجنيرال الإيراني خلفه جهاز ومؤسسة كاملة مسؤولة كليا عن سلوك إيران في سياساتها في الشرق الأوسط، يعني قتله يفيد في أمر ما للولايات المتحدة، هذا صحيح، وفي نفس الوقت ليس خسارة فادحة لإيران بقدر ما هو خسارة رمزية، وهذا صحيح أيضا إذا احتكمنا للغة محايدة، لقد أفاد قتل قاسم سليماني في إبراز تهور الرئيس الأمريكي الذي وضع العالم على شفى حرب، وأبرز بعض التشفي الصبياني لبومبيو والنسور الآخرين، بعدها ظهرت ردود فعل دولية تتبرأ من حماقة ترامب بشكل لم يعد التوغل في حرب يثير شغف الناتو واحلافه، لقد أفرز الحدث وضعا جديدا يجب حله! فحتى داخل الولايات المتحدة لم يكن هناك إجماع على الأمر، بل هناك تبرؤ عدد من المسؤولين الأمريكيين من الحدث، وعلى رأسهم مثلا رئيسة الكونغريس الأمريكي التي اعتبرت العملية متهورة وغير مدروسة العواقب إضافة إلى أن الرئيس ترامب لم يستشر الشعب ولا الكونغريس ولا حتى البانتاغون، لنتذكر جورج بوش الثاني عندما أعلن غزو العراق، لقد توجه إلى الشعب في خطاب رسمي، وهذا يعني أن ما فعله ترامب هو امر شائك، لقد خلق جدلا حتى على مستوى تحديد ما يسميه الأمريكيون "سري للغاية" ويتعلق بأمن الدولة، فجورج بوش هو الآخر اعتمد الأمر السري للغاية (معلومات استخباراتية حول أسلحة الدمار الشامل وطبعا تلك المعلومات التي استند إليها لا يمكن تعميمها)، بعد الحادثة برزت بشكل جيد تلك السياسة التي نعتها ذات يوم عسكري أمريكي بالقول: "حين يقع أمر سيء، نواجهه بداية باللامبالات في انتظار خلق تصور حوله يبرره او يفسره، نخلق حوله جوا ملائما لتدبير أزميته هي سياسة تدبير الملهاة لإطفاء شرارة ردود الفعل السلبية"..
بعد الحادث أرسلت الولايات المتحدة عبر القائم بأعمالها في إيران وهو سوسري رسالة مفادها أنهم لا يريدون حربا مع إيران، وهذا ما أفصح عنه الإيرانيون أنفسهم، وهو ما شكل لغزا محيرا في الأمر، يجب أن نعرف أن إيران أيضا لا تريد حربا شاملة باقتصاد غر وأسلحة ربما ليست بنفس قيمة الأسلحة الأمريكية (ولن ندخل هنا في حرب البلاغات حول القوة العسكرية)، يجب أيضا أن نفهم أن إيران إذا دخلت في حرب فلن تكون لوحدها بل ستكون وكيلة لقوى دولية أخرى في حرب ضراوتها ستكون على أرض ثالثة، وهذا يفهمه الجميع..
كان ظاهر الرسالة شيء لكن في العمق كانت تحمل جزءا من تلك العملية من تدبير الملهاة: أفترض انها تحمل رسالة خلاقة لإيران مفادها : "نسمح لكم بالرد إطفاءا لتأجيج المشاعر، اقصفوا أي من قواعدنا على ان تخبرونا بالعملية، لقد اخطأنا ونريد أن نعود إلى الحالة الطبيعية الأولى (تصوروا لقد كتبت هذا في تغريدة لي في الفايسبوك هذا المقال في الحقيقة تمطيط لها، وبعد وقت طويل خرج تصريح إيراني يقول بأنهم بالفعل أبلغوا الولايات المتحدة بقصف قواعدهم وهذا رابط التغريدة: https://www.facebook.com/odrimazigh/posts/10220907864469804?comment_id=10220908115316075¬if_id=1578473428429882¬if_t=feedback_reaction_generic.."
وهذا رابط البلاغ الإيراني الذي يقر فيه على انهم اخبروا الولايات المتحدة بالقصف:
اليوم هاجمت إيران قواعد التحالف الدولي ب 22 صاروخ أو أقل أو أكثر (لن أدخل في حرب البلاغات بينهم)، وبالفعل تم استثمارها في إطفاء المشاعر، إيران انتصرت لقائدها، التحالف الدولي أكد الهجوم مع نفي تام لخسائر بشرية، (النرويج صفر قتلى، الدانمارك صفر قتلى، ألمانيا صفر قتلى، الولايات المتحدة: القصف وقع على مكان خال من جنودنا، العراق صفر قتلى)، والآن في حوار متلفز لقائد إيراني (خامنائي) عبر هو الآخر عن انه قد تم بالفعل الثأر لسليماني وسنوقف الأمر، وطبعا سيبقى أمر الأرقام فاكهة جيدة للتداول، إيران سترفع منها وامريكا ستنفيها وسيغرد طرفي القطيع انتصارا لمن يؤيد أو شكيمة لمن لا يؤيد.
لقد انتهى كل شيء ولم يبقى إلا ذلك العيب الذي مسح نقاشاتنا في اليسار بين منتصر لترامب ومنتصر لإيران ، يعني بقي في الصورة ذلك النقاش المؤجج بالعواطف والذي في مضمونه العام يرحب بحرب بين دولة باقتصاد منهوك ودولة باقتصاد قوي وعلى أرض ثالثة ، طرف كان ينتظر معجزة إيرانية في الانتصار، والطرف الآخر كان ينتظر افتراسا وحشيا لإيران والذي سيكون بالطبع مكانه بلد آخر الذي هو العراق البريئ من تلك الحرب القذرة، العراقيون أحسنوا هذه المرة عملية تجنيب الحرب في بلادهم مادام القصف هو قصف لقواعد أمريكية في أرضهم ولم يصب جندهم، وحتى رئيس حكومتهم غرد بردا وسلاما...
ستبقى إيران حاضرة بنفوذها وستبقى الولايات المتحدة حاضرة بنفوذها، انتهت عملية إشباع العواطف الجياشة لهذا الطرف أو ذاك وهنا ستنتعش خطابات الخبراء المتخصصون الذي هم أصلا يدفع لهم في تأجيج سياسة تدبير الملهاة:
إسرائيل صمتت لأنها خائفة!؟ (الحقيقة أن إسرائيل صمتت لأنها أمرت بالصمت)
السعودية أيضا صمتت! (نعم السعودية التقت مسؤوولا امريكيا وطمأنها)
حرب أخرى هي حرب بلاغات؟ نعم هي حرب بلاغات تنعش القطيع وتنعش ذاكرتنا بالقول المأثور: يا أمة ضحكت منها القرود !
بعد الحرب العالمية الثانية والتي ذاق ضراوتها الغربيون أكثر، هذه الحرب خلصتهم من الدخول فيها مستقبلا، إنهم يستثمرون فيها وليس يدخلون فيها وهذه هي النقطة اللغز في الحروب الآنية: الشعوب المتخلفة أشجار تنتج فاكهة الحرب.
عذري مازغ
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال