ستعقد الجزائر الأسبوع المقبل أول انتخابات لها منذ عقود حيث لن يكون الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة مرشحا في هذه الانتخابات. وكان من المقرر إجراء الانتخابات في 4 يوليو، لكن المجلس الدستور الحالي قرر إلغاءها نظرا لعدم وجود مرشّحين.
ومع ذلك، استمر الجزائريون في الخروج إلى الشارع للتعبير عن رفضهم إجراء الانتخابات في ظل بقاء أبرز الأسماء التي يعتبرونها "أذرع بوتفليقة في السلطة" ومنهم نور الدين بدوي والرئيس عبد القادر بن صالح.
وفى الوقت عينه، ترفض المؤسسة العسكرية من جهتها أي حلّ للخروج من الأزمة غير الانتخابات الرئاسية. وهو ما يعني أن الانتخابات نفسها يجب أن تكون السبيل الرئيسي لأي تغيير مستقبلي في الجزائر.
وحتى داخل المشهد السياسي الناشئ والمتطور في مرحلة ما بعد بوتفليقة في الجزائر، تتعارض وجهات النظر انطلاقا من تعدد الخلفيات السياسية والأيديولوجية أو اختلاف التجارب التي يعتمدها الفرقاء السياسيون كمرجعية للمضي قدما في التحول المنشود.
من المتوقع أن يمثل الانتقال من الشوارع إلى البرلمان تحديا كبيرا
ففي حين يرى فريق أن السبيل الأمثل هو اتباع مسار الدول التي عايشت مراحل انتقالية صعبة يتم خلالها إحداث القطيعة الجذرية مع النظام السابق ويعبر عنها الشعار الشعبوي الجزائري الشهير "يتنحاو قاع ـ يذهبون كلهم".
هناك فريق آخر يرى أن الحل يجب أن يكون تدريجيا وبالاستناد إلى أدوات الواقع مع مراعاة أن يكون الانتقال منظما وسريعا حتى لا تتعاظم الآثار الجانبية لهذه العملية. ومن ثم، يرى هذا الفريق أن الخصوصية الجزائرية قد حكمت بضرورة بقاء عناصر تكنوقراطية من سلطة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ضمن مؤسسات الدولة بينما يتم تتغير النظام جذريا.
ومن أهم مؤشرات هذا التغيير حل ما يسمى بالجهاز الوطني للتزوير وهو لقب كان يطلق على الجهات الأمنية والإدارية التي ظلت تتدخل في توجيه العملية السياسية وتشرف على تزوير الانتخابات وتعميم الفساد وصناعة الرؤساء بعيدا عن إرادة الشعب.
وعلى الرغم من أن حركة الاحتجاج المستمرة في الجزائر قد نجحت في تحقيق بعض المكاسب السياسية، إلا أن النظام السياسي القديم لا زال قائما، ويتمتع بالسلطة ومدعوم من قبل المؤسسة العسكرية. ومن ثم، فإن التفاعل بين هاتين القوتين، سيحدد مسار الجزائر في المستقبل القريب.
وفي حين نجح المحتجون في إجبار الرئيس بوتفليقة على التنحي، إلا أنهم لم يتمكنوا من الضغط لأحداث تغييرات عميقة في هيكل الحكومة الجزائرية. وإلى جانب إضعاف المكتب الرئاسي، ومع احتمال بقاء الرئاسة شاغرة وتناقص سلطاتها لبعض الوقت في المستقبل، يظل نظام الحكم في الجزائر ثابتا ولم يتغير. لذلك فان إجراء أي تغيير في النظام يتوقف في الدرجة الأولى على استمرار قوة الاحتجاجات ورغبة القوى المسيطرة في البلاد في تلبية مطالبهم.
لا تزال الحكومة الجزائرية تقودها الأقلية حيث يتم تقاسم السلطة بدرجات متفاوتة بين الجيش وحزب جبهة التحرير الوطني ورجال الأعمال وأجهزة الاستخبارات. ويعتبر الفراغ الرئاسي الذي حدث عقب تنحى بوتفليقة هو التغيير الحقيقي الوحيد الذي حدث مؤخرا في هذا النظام.
ستوفر الانتخابات فرصة غير مسبوقة لبناء الثقة في البلاد
وعلى الرغم من أن المسار الدستوري نحو إجراء انتخابات رئاسية يمثل بارقة أمل للجزائريين لانتخاب رئيس جديد يعمل إبرام إصلاح سياسي حقيقي، إلا أن الانتخابات وحدها لا تكفي لتحقيق ذلك الهدف وذلك في ظل بقاء الدولة العميقة المتمثلة في النظام القديم.
وفى حين يرى البعض أن الانتخابات ليست سوى وسيلة للإبقاء على الوضع القائم انطلاقا من عمليات التزوير التي شابت المسار الانتخابي في الماضي، كذلك تعارض بعض الأحزاب السياسية والشخصيات إجراء الانتخابات لأنها غير جاهزة للمنافسة، فإن شريحة معتبرة من الجزائريين تعتقد أن أفضل السبل للمضي قدما في مسار التحول الديمقراطي هو العودة إلى الشرعية من خلال انتخاب رئيس جمهورية يمتلك صلاحية يتمكن من خلالها من إجراء إصلاحات عميقة داخل النظام السياسي الجزائري الذى يعانى من الضبابية و الانغلاق السياسي وانعدام الشفافية وتفشي الفساد وضعف آليات الرقابة.
وفقا لآراء تلك الشريحة، لا بد من المسارعة في تنظيم الانتخابات الرئاسية لأنها المحك الحقيقي لاختبار جدية التغيير وصلابته. فإرادة الناخبين الحرة عبر صناديق الاقتراع الشفافة هو أساس الممارسة الديمقراطية التي تخشاها الأنظمة الدكتاتورية الشمولية والتسلطية.
وهنا يتحول النقاش حول جدوى الانتخابات من عدمها إلى نقاش حول شروط إجرائها وضمانات النزاهة ونوعية المناخ السياسي المحيط بها. وقد تحقق في هذا الصدد إنشاء "السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات" التي ستشرف على عمليات الانتخاب بعيدا عن تأثير الحكومة والجهاز الإداري.
إن إجراء الانتخابات الرئاسية يمثل خطوة كبيرة نحو التغيير، لكنها ليست سوى البداية، لأن الحراك الشعبي يطالب بالمزيد من الإصلاحات في عدة مجالات منها حرية التعبير واستقلالية الإعلام والقضاء من أجل فسح المجال أمام التنافس السياسي الجاد بين الأفكار والبرامج. كما يطالب بتبني دستور جديد يكرس الفصل بين السلطات ويعزز دور المعارضة في الحياة السياسية.
وهناك مسؤولية أمام الحراك تتمثل في الانتظام داخل أطر العمل السياسي المتعارف عليها لأن السياسة الجادة لا تمارس عبر الخروج إلى الشارع فقط والاحتجاجات لا يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية بالنظر إلى المخاطر الأمنية والاقتصادية التي تحدق بالجزائر، إذ في نقطة ما لابد لقوى الحراك أن تعبر عن نفسها أما بالوصول إلى السلطة عبر الانتخابات أو ممارسة المعارضة إذا لم تحظ بثقة الأغلبية الشعبية.
يرى البعض أن الانتخابات ليست سوى وسيلة للإبقاء على الوضع القائم
ومن المتوقع أن يمثل الانتقال من الشوارع إلى البرلمان تحديا كبيرا، وهو التحدي الأول من نوعه في تاريخ الجزائر لكونه لم تكن هناك ممارسة سياسية حقيقية منذ الاستقلال داخل السلطة أو المعارضة، وكل الأحزاب والمنظمات التقليدية كانت منخرطة في علاقات الزبائنية مع النظام القديم ودولته العميقة ويتم الاستنجاد بها كديكور فقط للاستهلاك الخارجي.
وفي ظل هذه التحديات، لا تمثل الانتخابات العصا السحرية التي ستدفع البلاد نحو التغيير، إلا أن البديل عن المسار في ظل غياب رئيس منتخب واضح هو تفاقم حالة عدم اليقين واستمرار الجيش في التدخل في العملية السياسية وهو ما قد يقوض المسار الديمقراطي برمته.
لذلك، فإن مشاركة وتجنيد قوى الحراك في مراقبة العملية الانتخابية وتنظيمها قد يساهم بشكل كبير في منع عمليات التزوير وقطع الطريق أمام أي نية مبيتة للجهاز الإداري للتأثير على نتيجة الانتخابات بشكل يتعارض مع القانون والإرادة الشعبية.
ومن ثم، ستوفر هذه الانتخابات فرصة غير مسبوقة لبناء الثقة في البلاد، وفي الوقت عينه، ستمهد الطريق أمام الشعب الجزائري نحو أفق واعد لتعزيز الممارسة الديمقراطية.
سليم عبد الله الحاج كاتب ومدون مستقل، مهتم بالقضايا السياسية ومسائل الانتقال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
سليم عبد الله الحاج كاتب ومدون + منتدى فكرة
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال