بقيت إيام معدودة جدا لإجراء الرئاسيات في الجزائر المقررة يوم12ديسمبر2019 التي يشارك فيها خمس مرشحين يعتبرهم عموم الشعب بأنهم كلهم من أبناء النظام الذين يريدون إجهاض رغبة الشعب في تغيير النظام تغييرا جذريا، وتعيش الجزائر اليوم رهانا كبيرا بين عموم الشعب الذي يعمل على إفشال هذه الرئاسيات لمنع إستنساخ النظام نفسه، ثم يستغل إنتخاب رئيس لقمع المسيرات الشعبية السلمية، والهدف من إفشال الإنتخابات هو دفع النظام للقبول بمرحلة إنتقالية ديمقراطية تسمح بتغيير آليات عمله كما كان يطالب الشعب منذ بداية المسيرات في 22فيفري2019، خاصة بعد ذهاب بوتفليقة ورفض السلطة الفعلية أي مرحلة إنتقالية وإصرارها على تطبيق المادة102 من الدستور التي يعتبرها الجزائريون مجرد مناورة للإبقاء على نفس النظام متهمين قائد الأركان العامة للجيش الفريق قايد صالح بأنه وراء هذه الأجندة، لتنتقل المواجهة الشعبية الموجهة ضد بوتفليقة المنتهي إلى قائد الأركان، فكأن الشعب أكتشف أنه هو الحاكم الفعلي للبلاد، وأن المدنيين مجرد واجهة فقط بما فيها الرئيس الضعيف الذي ستفرزه رئاسيات 12ديسمبر 2019إن وقعت.
يبدو من أول نظرة أن السلطة ستعمل بكل ما بوسعها لإجراء هذه الإنتخابات مهما كان الثمن، لأنها لايمكن أن تقبل بالفشل في إجرائها ثلاث مرات متتالية، مما يعني في الأخير عدم قدرتها على التحكم في الوضع، وبأن الجزائر تعيش حالة خاصة.
كي نفهم الوضع الجزائري، ونقرأه قراءة صحيحة، يجب أن ندرك بأن إلى جانب الحراك الشعبي الذي أصبح عاملا رئيسيا في التأثير، فإن هناك أيضا أربعة أطراف تتصارع في دواليب النظام ذاته ، ثلاث أطراف منها معروفة، وهي ما سماها مولود حمروش في إحدى تصريحاته في 2013بالباءات الثلاث، ناقلا الفكرة من الباءات الثلاث أثناء الثورة التحريرية المتمثلين في كريم بلقاسم قائد الجيش وعبدالحفيظ بوصوف مسؤول المخابرات وبن طوبال وزير الداخلية، أي الشخصيات المتحكمة في أبرز الأجهزة الحساسة والمؤثرة في صناعة القرار أثناء الثورة التحريرية، لكن حمروش طبعا لايقارن من ناحية القيمة أولائك بما سماهم بالباءات الثلاث في 2013، بل سماهم بذلك لتحكمهم في أهم أجهزة الدولة المؤثرة في صناعة القرار مطالبا أياهم بحل الأزمة الخطيرة التي تعشيها الجزائر منذ فترة طويلة، وكان يقصد بالباءات الثلاث آنذاك الأركان الثلاث للنظام الجزائري المتمثلة في الرئاسة بقيادة بوتفليقة والمخابرات بقيادة محمد مدين وقيادة الأركان العامة للجيش بقيادة قايد صالح، وهي الأركان الثلاث التي يستند عليها انظام الجزائري منذ1962، والذي يتحتم الإبقاء على التوازن فيما بينها، لكن أختل هذا التوازن اليوم لصالح قيادة الأركان العامة للجيش، وهو مما من شأنه تهديد النظام فعلا بعد فقدانه التوازن بين أركانه الثلاث.
وجه قائد الأركان قايد صالح ضربات موجعة لمحمد مدين المدعو توفيق مسؤول المخابرات الأسبق الذي يبدو أنه أصبح ضعيفا نسبيا حسب ما يبدو للعيان، ولو أن الضربة كانت بشكل أكبر في القمة، كما أن أغلب المعتقلين من أبناء النظام اليوم هم من جناح الجنرال توفيق، إضافة إلى عدد قليل فقط من جماعة بوتفليقة، والدليل ترشح المقربين منه للرئاسيات بإستثتناء بن فليس الذي انفصل عنه في2003، لكن مايغيب عن أغلب المحللين هو إهمالهم طرف رابع داخل السلطة لايظهربشكل جلي، أي مخفي، ولا يعرفه أحد، ومن الصعب معرفتهن فهو يتصرف في سرية تامة وبحذر شديد، فهذا الجناح المستقل عن كل الأجنحة، سيكرر نفس ما قامت به اللجنة الثورية للوحدة والعمل التي انبثقت عنها جبهة وجيش التحرير الوطني في 1954 بعد ما تجاوزت الصراع بين المركزيين والمصاليين داخل التيار الوطني الإستقلالي المتمثل في الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية، كما تشبه مجازا فقط لا فعلا ومضمونا جماعة هواري بومدين التي تجاوزت صراع الباءات الثلاث(كريم بلقاسم وبوصوف وبن طوبال) عشية إسترجاع الجزائر إستقلالها في1962، فهذا الطرف الثالث يريد إفشال الإنتخابات، ويتخلص من كل الأجنحة التي تشكل النظام، ويريد من خلال ذلك مساعدة الحراك الشعبي فعلا في تحقيق أهدافه كاملة غير منقوصة، فلو فشلت الإنتخابات الرئاسية، سيصعد هذا الطرف الرابع بقوة، والذي يمكن وصفه بالتيار الوطني الحقيقي داخل النظام، ثم سيضغط بشكل غير مباشر ليفرض مرحلة إنتقالية ديمقراطية تنقل الجزائر إلى نظام ديمقراطي فعلي كما يريده الحراك الشعبي، لكن تحركات هذا الطرف الرابع مرتبطة بمدى إستمرارية الحراك وتطوره، فحتى لو وقعت الإنتخابات، فإنها ستكون بنسبة مشاركة ضعيفة جدا، مما يعني الإستمرار في نفس الوضع الذي كان مع رئيس الدولة الحالي عبدالقادر بن صالح، أي رئيس ضعيف جدا متحكم فيه، فيستمر الضغط الشعبي كما أستمر من قبل إن لم يكن بشكل أكبر، فكما أسقط بوتفليقة، سيتم إسقاط هذا الرئيس المنتخب بنسبة مشاركة ضعيفة جدا، هذا إن لم يفرض عليه تنفيذ أجندة الحراك ذاته، كما يستحل على الرئيس الجديد إستخدام العنف ضد الحراك مادام هو سلمي من جهة، ولوجود ضغوط من دول أوروبية في شمال المتوسط على السلطة في الجزائر تحذرها من إستخدام العنف، لكن تدعمها وتناور في نفس الوقت لإيجاد مخرج ينقذ السلطة التي لها مصالح كبيرة معها، فهذه الدول الأوروبية تخشى أن يهدد أي عنف في الجزائر أمنها كتزايد الهجرات غير الشرعية، وكذلك الإرهاب الذي سيستغل الفوضى والظرف الأمني، وبتعبير آخر لاتريد هذه الدول سوريا أو ليبيا أخرى في جنوب المتوسط، ولهذا فحتى هذه القوى الأوروبية، ومنها فرنسا تخطط أيضا مع السلطة للإلتفاف على الحراك دون عنف مع الحفاظ على مصالحها المرتبطة ببقاء هذه السلطة القائمة في الحكم.
أن ما تعيشه الجزائر اليوم هو إنقلاب إيجابي وثوري من قوى وطنية داخل النظام مستاءة مما وصلت إليه الجزائر اليوم رغم كل الإمكانيات المتاحة لها، فهذا الإنقلاب شبيه بالإنقلابات العسكرية التي عرفتها بعض البلدان في الخمسينيات والستينيات للقضاء على أنظمة ملكية عميلة وفاسدة كما وقع في مصر مع الضباط الأحرار بقيادة عبدالناصر ضد الملك فاروق في1952 أو في العراق بما يسمى ثورة 1958 ضد النظام الملكي أو اليمن في 1963 ضد النظام الإمامي وغيرها من الإنقلابات العسكرية التي قادها ضباط شباب، وحققت إنجازات كبرى في بديات حكمها قبل ان تنحرف حتى هي فيما بعد وتقوم بنفس ممارسات النخب الحاكمة السابقة، وهو ما يتطلب اليوم إقامة آليات نظام تمنع هذه الإنحرافات مستقبلا بعد سقوط النظام الجزائري، وهو ما قمنا به وطرحناه في الكثير من مقالاتنا وكتبنا. أن الظرف الدولي اليوم يرفض هذا الشكل من الإنقلابات العسكرية، ولايعترف بها، بل يخطط لها بشكل آخر بواسطة حراكات شعبية ضد أنظمة فاسدة بهدف إقامة أنظمة ديمقراطية فعلا تسودها العدالة الإجتماعية، فقد كان آخر إنقلاب عسكري من أجل الديمقراطية هو في البرتغال مع ثورة القرنفل في 1974.
قلنا في حوار لنا مع يومية الخبر الجزائريةعدد(11أكتوبر2019) بالحرف الواحد حول سؤال عن تعدد المرشحين الموالين للنظام، حيث قلت للصحفي" قبل الإجابة على سؤالك أريد ان أتحدث عن تجربة بلد هي إيران أين لولي الفقيه الممثل لرجال الدين السلطة الكاملة في البلاد، لكن تقع إنتخابات رئاسية كل أرٍبع سنوات بشكل ديمقراطي تماما مثيرة للإنتباه، ولاتزور، لكن في حقيقة الأمر الرئيس المنتخب لايمتلك أي قرارات التي هي في يد ولي الفقيه والمؤسسة الدينية، لكنه غير مختفي، ويتم تصفية المرشحين من مجلس الخبراء، ولهذا لايهم لهم من سيفوز مادام كلهم من النظام، ولايستطيعون تغييره. نعتقد أن ما سيحدث في الجزائر هو نفس الشيء حيث ستترك حرية الإختيار، لكن مابين مرشحي النظام فقط، ويمكن أن تقول لماذا لم يسمح بذلك في الماضي مثل 2004 بين بن فليس وبوتفليقة؟، فأجيبك بنظام التكتلات والأجنحة التي هي خاصية أساسية في النظام الجزائري، والجناح القوي هو الذي يفرض رئيسه بالتزوير له، لكن منذ22فيفري2019 أنتهت هذه الخصوصية نسبيا، وبالتالي لايهم من يفوز مادام سيكون خاضح للجناح الواحد المهيمن على النظام اليوم، كما ستعطي اللجوء إلى هذه الطريقة نوع من المصداقية لهذه الإنتخابات لدى الرأي العام الدولي ولشرعية الرئيس القادم، مما سينزع أي مبررات للحراك ومطالبه، وسيضرب بإسم شرعية معترف بها. .... لكن من المؤكد لو لاحظت السلطة وجود مرشح من النظام قوي جدا، وبإمكانه أن لايخضع للمتحكمين في دواليب الدولة، ويثير لهم مشاكل، وهم الذين أشار إليهم حمروش بالتلميح في غحدى تصريحاته، سيتم تدخل لإبعاده ولتزوير الإنتخابات ضده، لكن مادام هناك مرشحين من النظام ضعفاء، ولايشكلون أي خطر على مصالح هؤلاء المتحكمين، فلا يهم من سيكون ما دام سيخضع لهم.".
أن الإنتخابات في الجزائر ستكون شبيهة بالإنتخابات في إيران، أي من يفز بها لايضر بمصلحة الحاكم الفعلي في إيران، وهو ولي الفقيه والمؤسسة الدينة المتحكمة في كل دواليب اللعبة السياسية وصناعة القرارات، فالرئيس مجرد واجهة لها، وسنجد نفس الشيء في الجزائر اليوم ، فكل المرشحين مقبولين من النظام، فليس مهما من سيفوز، ولو أن البعض يعتقد أن هناك ميولات لتبون، لكن بعد إستدعاء إبنه خالد للمحاكمة في قضية الكوكايين وبروز بوادر التخلي عنه جعل البعض يعتقدون ان الميولات هي لعزالدين ميهوبي، خاصة أنه هو الأخير الذي قدمه التلفزيون العمومي الجزائري في حصته مع الرئيس، إلا أننا نعتقد أن هناك إنقسام داخل السلطة الفعلية بين ميهوبي وتبون، لكن المرشح الوحيد الذي يمكن أن النظام خشى منه هو علي بن فليس، وذلك لعدة أسباب، ومنها طرحه فكرة عملية في برنامجه تقضي نظريا بعملية تغيير آليات النظام ولو جزئيا، وذلك عندما يطرح فكرة إنتخابات برلمانية جديدة، ثم ينبثق عن البرلمان الجديد ما سماها بهيئة تأسيسية متشكلة من كل التيارات، التي ستصيغ دستورا توافقيا جديدا يغير بها نظريا آليات عمل النظام، لكن ما نستغربه هو صمت بن فليس في حملته عن هذه الفكرة المطروحة في بداية الحملة، فهل أدرك أنها فكرة مرفوضة من السلطة الفعلية التي لاتريد أي تغيير لآليات عمل النظام، ولو كان بسيطا؟، أما السبب الثاني فعلينا أن ندرك كما أشرنا من قبل بأن جماعة بوتفليقة لازالها بقوة داخل دواليب الدولة، وهي تخشى إنتقام بن فليس منها في حالة إنتخابه، فنعلم كلنا بأن قائد الأركان قايد صالح لعب دورا حاسما، ولو لم يظهر بشكل علني في فوز بوتفليقة على بن فليس في رئاسيات2004 على عكس قائد الأركان آنذاك الفريق محمد لعماري الذي خلفه قايد صالح، وتظهر عرقلة بن فليس اليوم من خلال عدة مظاهر، ومنها إظهار التلفزيون الحكومي عدة مرات الأماكن الشاغرة بقوة أثناء تجمعاته، إضافة إلى حدوث أكبر عدد للإعتقالات كلما مر على مدينة مقارنة بالمرشحين الآخرين، كما لاننسى إتهام شخص أعتبر من الفاعلين في مديرية حملته بالتعامل مع مخابرات أجنبية، مما يهدد الدفاع الوطني، وهي تهمة خطيرة جدا، وهو ما يعني في الأخير أن بن فليس لم يتمكن من حماية مديرية حملته من عملاء لقوى أجنبية، فكيف سيحمي الدولة؟، ولو أن بن فليس كذب أي علاقة بهذا الشخص، لكن نعرف كلنا أن ما تنقله الفضائيات الخاصة الجزائرية ليس بريئا، بل هي مرتبطة بالسلطة الفعلية، وتقول ماتوحيه لها، فهي لاتمتلك أي حرية في نقل الأخبار، ومنها صكتها التام عن حراك شعبي يضم الملايين من الجزائريين، ويعود موقف هذه الفضائيات ليس فقط لتحكم السلطة الفعلية فيها، بل أغلبها هي من إنشاء رجال مال فاسدين كونوا ثرواتهم في عهد بوتفليقة، وبقوا يدافعون عن مصالحهم بالتهجم على سيدهم القديم وولي نعمتهم وخدمة السيد الجديد لا أكثر ولا أٌقل.
نشير في الأخير أن ملامح التزوير ظاهرة للعيان، خاصة في نسب المشاركة التي تعد هدف النظام، لأن إرتفاعها معناه بقاء النظام، وهو ما يظهر جليا من خلال تصريح رئيس اللجنة الوطنية لتنظيم الإنتخابات محمد شرفي الذي يكذب بشكل فاضح بقوله أن المساندين للإنتخابات هم أكثر من الرافضين لها بالرغم من أن الحقيقة جلية وواضحة، ففي الواقع أغلب الجزائريين ضدها بإستثناء الأقلية جدا المستفيدة من النظام بنهب ثروات الشعب، إضافة إلى أقلية جدا من الأغبياء ضعيفي الوعي السياسي الذين تمر عليهم تخويف النظام للجزائريين لدرجة تصديق بعض هؤلاء أنه لو لم تجر هذه الإنتخابات، سيتدخل الحلف الأطلسي في الجزائر، فالجميع يعلم أن المسيرة المؤيدة للإنتخابات ضعيفة جدا من ناحية العدد رغم إستخدام وسائل الدولة بشكل كبير والضغوطات على العمال البسطاء للمشاركة فيها، وإلا ستعرضون للطرد من عملهم، لكن ما يؤسف له هو عندما توصف هذه المسيرات الضعيفة جدا بأنها مؤيدة للجيش، وكأن الذين ضدهم هم ضد الجيش التي هي مؤسسة أساسية في الدولة، وهذه السلوكات اللامسؤولة هي أكبر إهانة تلحق بهذه المؤسسة المحترمة من كل الجزائريين، ويجب معاقبة أصحاب هذه الممارسات أشد العقاب، لأنها تمس بمؤسسة هامة في الدولة التي يريدون تصويرها، عن لم نقل جرها إلى صدام مع الشعب الجزائري وتوظيفها للدفاع عن ما نهبوه من ثروات الجزائريين، وقد فضحت جزء صغير جدا فقط من محاكمة بعض رموز النظام، وهي المحاكمة التي ظهرت على شكل الشجرة التي تغطي غابة من الفساد والنهب مارسه ولازال يمارسه هؤلاء الذين يحاولون التستر اليوم وراء الجيش طيلة عقود في الجزائر .
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال