في الوقت الذي تدخل فيه الأحزاب مرحلة التوافق مع النهضة وهي منقسمة، تنخرط الأخيرة في سياق التحالف وهي وحدة صماء.
هي قبلة الموت التي تمنحها حركة النهضة التونسية لكل حزب سياسي يدخل معها في تحالف حكومي، فإذ به يتفتت على أكثر من شق ويدخل طور الانشطار والفوضى.
فمن حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات حليف “الإخوان” الرئيس ضمن الترويكا الحاكمة السابقة الذي تصدّع على أكثر من جبهة، إلى نداء تونس الذي بات اليوم “نداءات” متناحرة سياسيا وإعلاميا، وبعده حزب الرئيس السابق المنصف المرزوقي بغض النظر عن تسمياته المتغيّرة- من المؤتمر من أجل الجمهورية إلى حزب تونس الإرادة- والذي يعرف حاليا استقالات كبرى في صفوف قيادات الصف الأول.
هذا دون التطرق إلى التيار الوطني الحر وآفاق تونس، والتي شكلت معهما النهضة تحالفا للحكم عقب انتخابات 2014، فإذ بهما يدخلان بسرعة مرحلة الشك والاشتباك.
السؤال المركزي بعد هذا الجرد، هل أن الإشكال يعود إلى طبيعة التحالف مع حركة النهضة باعتبارها عامل تشرذم بحدّ ذاته، أم أنّ القضية مرتبطة بالهوان في مستوى الاستشراف وتأثيث المشاريع الذي عليه هذه الأحزاب، ما يجعلها لقمة سائغة للزمن السياسي وفريسة سهلة لحركة النهضة توظفها في حروب الداخل والخارج وتطلقها بمجرد إفلاسها السياسي.
الإجابة عن هذا التساؤل ليست هينة، فلكل حزب أسبابه الداخلية والذاتية والموضوعية في التأزم والتشقق ولكل تنظيم سياسي اختار التوافق مع النهضة المسافة الخاصة به من الاقتراب من عشّ الدبابير، فمن باب التجني على الواقع أن نضع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية في نفس الخانة مع نداء تونس، ومن قبيل القفز على الوقائع وضع حالة التكتل من أجل الحريات في نفس سلة التقاطع مع آفاق تونس.
يجسد التحالف مع حركة النهضة لدى الأحزاب الاجتماعية واليسارية والدستورية، عامل تململ وتوتر، وتنفتح معه الكثير من الملفات الخاصة بمدنية الدولة وتمدّن الحركات الإسلامية والمراجعات السياسية لمدونتها الفكرية وعلاقة القواعد بالقيادات، وهي كلها مسائل بمثابة حقول الألغام التي بمجرد أن يفتحها الحلفاء إلا وتنفجر في وجوههم الكثير من الخلافات والتباينات، وفي الوقت الذي تدخل فيه هذه الأحزاب مرحلة التوافق مع النهضة وهي منقسمة حول النهضة تنخرط الأخيرة في سياق التحالف وهي وحدة صمّاء، وما تنفك هذه الوحدة في التقوقع وما تنفك تلك الانقسامات في التجذر مرة بسبب فشل العمل الحكومي، وثانية بسبب تغوّل النهضة على التحالف.
هذا بالإضافة إلى الطابع المراوغ في النظر إلى التحالف حيث تعطي النهضة لحلفائها السلطات المرئية ممثلة في الصلاحيات التنفيذية، وتبقي على السلطات الحقيقية سواء في المجلس التشريعي أو في المجالس المحلية والبلدية، وهي سلطات بعيدة عن الإعلام ولكنها كينونة الحكم وجوهر السيادة في حين تترك لحلفائها العمل تحت الأضواء الكاشفة في الرئاسيات وفي المناصب الكبرى مع ما تكتنفه هذه المناصب من استهداف داخلي وخارجي واستنزاف للطاقات.
وهو تقريبا ما فعلته النهضة مع نداء تونس، حيث انخرطت معه في بداية الولاية البرلمانية في رقصة ثنائية، قابلة بمنحه كافة الرئاسيات الكبرى ومعظم الحقائب الوزارية مكتفية هي بدور بيضة القبان في البرلمان، فإذ بمفاسد الحكم تفعل في نداء تونس فعلها وإذ بأمواج السلطة تكسر أجنحة كتلة تاريخية اجتمعت من أجل إسقاط النهضة من السلطة وتفرقت عند بناء سلطة بديلة. وفي العمق أيضا تصر حركة النهضة دائما على اختيار “ذكر النحل” الحكومي لتأدية مهمة وظيفية بعينها ويموت رمزيا بمقتضاها، هكذا اختارت المنصف المرزوقي كرأس حربة في مكاسرة إخوانية ضد سوريا وتجيير تونس دولة وشبابا كبيادق رخيصة في مشروع السلطان التركي والأمير القطري.
وهكذا قدمت النهضة نداء تونس للحكم وقيادة البلاد والتفاوض المر مع المانحين الدوليين والتفاوض الشرس مع الفاعلين الاجتماعيين في زمن الأزمات الاقتصادية الكبرى والمعضلات الاجتماعية والتنموية ومنعرجات الفاقة والتأزم المجتمعي. صحيح أن نداء تونس أراد السلطة برمتها بناء على برنامج الانتخابي، لكن النهضة ساهمت في تعويمه وإغراقه ضمن ملفات المطلبية الاجتماعية والاقتصادية الملحّة.
وفي الحالتين، كانت النهضة تتلطى وراء مقولات صلاحيات رئيس الجمهورية وخيارات حكومة التوافق بقيادة النداء، وفي الحالتين لم تتأخر على الحفاظ على قاعدتها في التحالف “المحافظة على الحكم كليا والحكومة نسبيا”، وهي قاعدة بمثابة قبلة الموت لكافة حلفائها السابقين والقائمين والقادمين.
قد يكون من المجانب للصواب أن نضع كل أسباب التشظي على التحالف مع حركة النهضة، فالرغبة الشخصية في اعتلاء منصب الرئاسة عبر سلّم الإخوان والنزوات الفردية في السيطرة على الحزب واعتباره ملكا عائليا، إضافة إلى غياب المأسسة الحزبية وبناء المشاريع، كلّها أسباب لفشل الأحزاب وانهيارها بطريقة ناعمة أو مباشرة. وقد يكون من غير المنطقي تحميل النهضة مسؤولية التشظي سيما وأنها تبحث دائما عن حصان طروادة لدخول الحصون والتغلغل فيها، ولكن الصحيح أن وصفة التحالف التي تقدمها النهضة لطارقي بابها ليست سوى وصفة انتحار بطيء.
أمين بن مسعود - كاتب ومحلل سياسي تونسي
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال