ودعت الأمة الإسلامية في مشارق الأرض و مغاربها عاما هجريا، و استقبلت عاما هجريا جديدا، و الأمة تعيش تحت وقع نفس الظروف التي دفعت النبي محمد عليه الصلاة و السلام و صحابته الكرام إلى الهجرة و ترك وطن الاستبداد و الظلم و التعصب، و الهجرة إلى وطن الحرية و العدل و التسامح فما أشبه اليوم بالأمس...!!
فالأمة و هي تستقبل الذكرى 1440 لهجرة نبيها و قدوتها من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، تتذكر جراحها و مآسيها التي لا تكاد تنتهي فالظلم و الإستبداد و سفك الدماء و انتهاك حقوق العباد مشهد يومي يتكرر في كل وقت وحين في وطننا العربي و الإسلامي، و من المؤكد أن هذه الأحداث لن ترضي نبي الأمة محمد عليه الصلاة والسلام، الذي هاجر من موطن يحكمه الظلم والاستبداد، إلى موطن جديد تسوده حرية الاعتقاد و حرية الرأي و التعبير، موطن لا يتحكم فيه الطغاة في مصائر البلاد والعباد...
تودع الأمة العام الهجري 1439 بأحداث مؤلمة، فاليمن يعاني ويلات القصف و التشريد و التدمير، و يعاني أهله الجوع و عودة أمراض الفقر، التي لم نعد نسمع بها إلا في بلدان العالم الإسلامي، والعراق لازال تحت القصف و أهله يعانون من نقص حاد في الأموال و الثمرات رغم أن البلاد من أغنى بلاد الكون، لكن الفساد و الظلم يحول الغنى فقرا، و الجمال قبحا، و سوريا تعيش بدورها تحت القصف و أصبحت أرضها مسرحا لتصفية الحسابات بين القوى الدولية والإقليمية، و الثمن يدفعه الشعب السوري الذي هجر الوطن بحثا عن الأمن و الأمان، و السبب دائما الظلم و الطغيان... فتحولت سوريا من بلد يحتضن أهله المُهجَرين إلى شعب مُهَجر في أقاصي الأرض...
وفي السعودية موطن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و بها يوجد مسار هجرته من مكة إلى المدينة، هربا من طغيان سادة قريش، يتكرر نفس الطغيان و الجبروت ، فسادة السعودية اليوم يقصفون و يدمرون الشعب اليمني المسلم، ويحاصرون الشعب القطري و يمنعونه من حج بيت الله الحرام، و يضعون اللوائح و التصنيفات لمنع عباد الله من زيارة بيت الله الحرام، بل إن طغيانهم إمتد لسجن دعاة الله، الذين جهروا بالحق، وكان مصيرهم المنع و الإعتقال و ربما يتعرض بعضهم للإعدام، فهذا الشيخ و العلامة "سلمان العودة" و الشيخ " محمد صالح المنجد" و لائحة العلماء الذين أعتقلوا يصعب حصرها، و الإقتصار على هؤلاء لا يعني التقليل من شأن الأخرين، بل إنهم جميعا من خيرة علماء الإسلام و أكثرهم إنفتاحا وإدراكا لروح الإسلام، و قد تتلمذت على يد بعضهم و أدركت أن الإسلام ليس مجرد عبادات و شعائر دينية وإنما منهج متكامل في الاقتصاد و السياسة إنه منهج فريد في العمران و الإجتماع البشري ..
و في أرض الكنانة إعتقالات و إعدامات بالجملة لفئة ذنبها أنها رفضت الخنوع و الخضوع للتغمة العسكرية، فرجال ونساء تم الزج بهم في المعتقلات و تعريضهم لشتى أنواع التعذيب و التنكيل بسبب أرائهم و مواقفهم السياسية و السبب دائما الظلم و الطغيان...
نفس الأمر يتكرر في المغرب لكن بدرجة أخف، فبالرغم من الظلم و الطغيان إلا أن هناك بعضاً من العقل، فقد تم اعتقال نشطاء الريف و جرادة، و مع أنه تم العفو عن بعضهم إلا أن البعض لازال في الاعتقال و في مقدمة هؤلاء "ناصر الزفزافي" و الصحفي " حميد المهداوي"، و الذين عبروا عن رأي مناهض للظلم و الفساد...
و مأساة الأمة أعم و أكبر فهي غير محصورة في هذه البلدان، بل خارطة الدم و المآسي تشمل غالبية البلدان العربية وجزءا من البلاد الإسلامية، و أس هذه المآسي هو الاستبداد و الظلم والابتعاد عن الحق و العدل في الحكم و في إدارة النزاعات، وهو نفس ما عاناه المسلمون في مكة قبل الهجرة النبوية، فسادة قريش اعتبروا أنهم على حق، و أن هذه الفئة التي دخلت في الإسلام هي فئة باغية تهدد مستقبل قريش و أمنها.. فكما تعرض المسلمون في بداية البعثة النبوية إلى التقتيل و التعذيب و التنكيل و السجن والحصار، فكذلك اليوم نجد أن من يحمل فكرة الإصلاح و التغيير بالاعتماد على التصور الإسلامي، و المنهج النبوي، يعرض لكل هذه المضايقات..
فأصبحت الهجرة شعار المرحلة بإمتياز، وسفينة النجاة من الظلم و الطغيان بأوطاننا، فللنظر إلى التقارير الدولية حول الهجرة و اللجوء لنجد أن البلاد العربية و الإسلامية طاردة لأبناءها، ففي تقرير نشرته صحف إسبانية شهدت إسبانيا موجات جديدة من الهجرة مصدرها المغرب ، وقوارب الهجرة السرية التي تحمل شباب مغاربة في مقتبل العمر وهم يركبون المجهول هربا من الظلم و الفقر يدعو إلى الأسى، فنحو 10 ألاف قاصر من أصول مغربية يتواجد على الأراضي الإسبانية، فمن المسؤول عن هجرة هؤلاء ، من دون شك أن النظام السياسي الفاسد الذي يغلب مصالح الأقلية الحاكمة المحتكرة للثروة و السلطة على حساب تفقير و تجويع و نهب ثروات الأغلبية..
الحالة المغربية ليست فريدة بل عامة وتشمل معظم البلدان العربية، فالأنظمة الحاكمة تمثل دون شك سادة قريش الذين مارسوا كل أشكال التعذيب و التنكيل على المسلمين قبل الهجرة، و اليوم يتكرر الصراع بين الحق و الباطل، بين العدل و الجور، بين الحرية والطغيان..
و كما إنْتَصر الحق في عهد النبي محمد صلى الله عليه و سلم وانتشر نور الإسلام في مشارق الأرض و مغاربها، و اندحر سدنة الظلم و الطغيان و الشرك في مكة ، فكذلك سدنة الظلم في عصرنا سيكون مصيرهم على نفس شاكلة "أبو جهل" الذي وظف ذكاءه و موارده لنصرة الباطل، ولو أنه نصر الحق لسَجَل إِسْمَه بأحرف من ذهب و لكان في صفوف: الصديق و الفاروق و عثمان بن عفان و علي رضي الله عنهم جميعا..
فالهجرة سفينة النجاة و النجاح في الأولى و الأخرة، و الهجرة ليست بالمعنى الضيق للكلمة أي الانتقال من مكان إلى أخر، و إنما جوهرها و مغزاها الذي أرساه محمد عليه الصلاة والسلام هو الإنتقال المعنوي من معسكر الباطل إلى معسكر الحق، ومن التبعية و الولاء للطواغيت إلى الولاء و العبودية لله الواحد الأحد، و سفينة الهجرة في عصرنا هي سفينة النوح التي بإمكانها أن تنقد كل من يمتطيها و تنجيه من طوفان الظلم و الشهوات و الباطل، لكن سفينة نوح ليست من خشب و إنما هي القران الكريم و سنة النبي محمد عليه الصلاة و السلام، فالهجرة إلى القران و السنة و التمسك بتعاليمهما، الشرط اللازم للانتصار عن طوفان الباطل و عبادة الطواغيت الذي تجتاح أوطانننا...فالنصر لن يكون إلا لهذه الفئة المستضعفة التي تحمل نور الإسلام و تدافع عنه بالنفس و المال قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)} [محمد : 7-8]..
فالاختبار الذي تعرضت له الجماعة المؤمنة في بداية البعثة المحمدية يتكرر في كل زمان و مكان، و الغاية من التكرار هو التمحيص قال تعالى {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران : 141]، و الغاية من هذا التمحيص ليست دنيوية بالأساس و إنما غايتها الجنة ونعيمها الدائم و الأبدي قال تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران : 142]..و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون...
طارق ليساوي أكاديمي
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال