طريق فرنسا نحو النهائي يعطي الدليل على أن الكرة الحديثة لا تنبني فقط على النجومية "المفرغة" من معناها، لا يتأسس على الحماس الكاذب.
قالت فرنسا كلمتها، كان لديها اليد الطولى في “معركة” مربع الذهب ضد المنتخب البلجيكي، لقد فاز منتخب “الديكة” على نظيره البلجيكي وأمّن الفرنسيون الحضور في حفل الختام في المونديال الروسي، كان لهم ما أرادوا، لقد حققوا هدفهم الأول فتأكد أن هذا المنتخب يسير على الدرب الصحيح نحو لقب عالمي بعيد عن الخزائن الفرنسية منذ عشرين عاما.
المنتخب الفرنسي بدا أكثر المنتخبات واقعية في هذا المونديال، لاح جديا و”براغماتيا” في تعامله مع كل المنافسين، حقق المطلوب وزيادة في مواجهاته الـ6 السابقة، لم يترنح ولم يخرج عن النص، فحق له الوصول إلى حفل التتويج بكل براعة واستحقاق.
الفوز على المنتخب البلجيكي لا يعدو أن يكون سوى تأكيد متجدد على قوة هذا المنتخب، قوة استمدها أساسا من هدوئه وحكمته وتبصره، ففي المعسكر الفرنسي كل شيء مدروس وكل خطوة بحساب، والشعار الأوحد هو التقدم نحو الأمام بثبات دون التركيز على البهرج المفرط والفرجة غير المجدية.
طريق فرنسا نحو النهائي يعطي الدليل على أن الكرة الحديثة لا تنبني فقط على النجومية “المفرغة” من معناها، لا يتأسس على الحماس الكاذب، لا يرتكز على العواطف والمشاعر بل هو نتاج تخطيط ناجح وتعامل رائع مع المباريات، فالفرنسيون فهموا عكس كل منافسيهم أن الهدف الرئيس من المنافسات هو حصد النقاط وتفادي الهزائم، وهذا ما حصل بالضبط منذ المباراة الأولى إلى اللقاء الأخير.
ففي الظهور الفرنسي الأول خلال المونديال الروسي، لم يكن المستوى جيدا، غابت الفرجة، كانت المباراة ضد المنتخب الأسترالي رتيبة ومملة، ومع ذلك فازت فرنسا.. لكن لا أحد توقع أن يصل منتخب “الديكة” إلى المحطة النهائية بهذا المستوى الباهت.
في المباراة الثانية حقق هذا المنتخب الفوز بالحد الأدنى المطلوب ضد منتخب بيروفي كان الأفضل في تلك المواجهة التي انتهت بهدف يتيم حمل توقيع مبابي الذي استغل هفوة وحيدة من دفاع المنافس، لقد أمّن هذا المنتخب التأهل إلى الدور الثاني دون أن يقدم أي عرض مقنع، لكن هي هكذا قواعد اللعبة.
في المباراة الثالثة تعامل المنتخب الفرنسي مع منافسه الدنماركي بكثير من “العقلانية” والتبصر والتفكير في قادم المراحل، فلم يجازف ولم يرتبك ولم يرتكب أخطاء، فتعادل سلبيا وحافظ بالتالي على صدارة مجموعته، وهذا المطلوب.
لكن مع بداية الأدوار الإقصائية تغير هذا المنتخب، فتحول إلى ما يشبه “الوحش” الكاسر المتأهب “لالتهام” خصومه، فتخطى عقبة المنتخب الأرجنتيني في الدور ثمن النهائي، وفاز في لقاء دور الثمانية على منتخب الأوروغواي قبل أن يواصل “الديك” الفرنسي “التطاوس” والتطاول على كل منافسيه ليرسل منافسه البلجيكي في الدور نصف النهائي إلى الديار.
دروس كبيرة قدمها هذا المنتخب، فتعامله الذي بلغ الكمال مع كل منافسيه ودراسته الفنية المتقنة للخصوم وتحضيره المتميز لكل المباريات جعلته ينجح بامتياز شديد في كل الاختبارات. ضد المنتخب الأرجنتيني أدرك الجهاز الفني للمنتخب الفرنسي أن منافسه “ضعيف” من الناحية الهجومية وأيقن أن الأسلوب الأمثل هو التقدم للهجوم والتسجيل، كان يدرك أن الفوز يمر عبر الوصول إلى مرمى المنافس، فتحقق المطلوب.
أما ضد منتخب الأوروغواي فقد كانت قناعة هذا المنتخب الفرنسي القوي فنيا وتكتيكيا مبنية على ضرورة غلق كل المنافذ الدفاعية مع ضرورة التحلي بالصبر والبحث عن مكامن الضعف لدى المنافس، كان السلاح الفعّال هو حسن التعامل مع الكرات الثابتة، فحقق منتخب فرنسا ما كان يخطط له.
أما ضد المنتخب البلجيكي فإن مدرب المنتخب الفرنسي أيقن أن طريق النهائي يمر حتما عبر “تقليم مخالب وحوش” المنافس، فتم تحجيم دور هازارد ولوكاكو ودي بروين، سدت كل المنافذ وتحول الدفاع الفرنسي إلى جدار فولاذي يستحيل اختراقه، كانت ثمة ستائر سميكة في وسط الميدان فتقلصت المساحات وجعلت كل هجومات المنافس ترتد، بالتوازي مع ذلك ظهر تعامل حكيم مع نقطة قوة لاعبي المنتخب الفرنسي وهي الكرات الثابتة، فسجل المدافع أومتيتي هدف النصر تماما مثلما فعل زميله في الدفاع فاران ضد الأوروغواي.
المعادلة الفرنسية كانت ناجحة والقراءة المتأنية وحسن الإعداد لكل المباريات حسب خصائص المنافسين أهلّت “الديوك” لبلوغ المشهد الختامي. بيد أن التخطيط المحكم والتنفيذ البارع يتطلب “جنودا” بارعين، فوجد المدرب ديشان الحل لدى نخبة من اللاعبين المتميزين، القاسم المشترك الذي يجمع أغلبهم أنهم من أصول أفريقية.
يا لها من عبثية في هذا القدر الذي بعث كل المنتخبات الأفريقية إلى الديار منذ الدور الأول، لكن المنتخب الفرنسي أحسن الاستثمار في هذا العنصر البشري الذي يملك جينات التألق والموهبة والسحر الممتع.
المنتخب الفرنسي أكد للمرة الألف أنه يثق كثيرا في قدرات مواطنيه الذين ينحدرون من أصول أفريقية، فمبابي هو ابن مهاجر كامروني وأم جزائرية، وأومتيتي ينتمي إلى عائلة من أصول كامرونية وبوغبا ينحدر من عائلة غينينة، أما ذلك الساحر كانتي فهو من عائلة لها جذور مالية، وينحدر ماتويدي من عائلة قادمة من أنغولا.
اليوم أثبت ديشامب رغم اتهامه بالعنصرية أن قواعد اللعبة تقتضي بالضرورة المحافظة على القواعد القديمة، ففرنسا المنفتحة على الضفة الأفريقية لا تقدر على المضي قدما دون التعويل على أبنائها من المهاجرين، والمنتخب الفرنسي قد لا يقنع ويبدع دون إضافة الكثير من السحر الأفريقي الممتع.
مراد البرهومي - كاتب صحافي تونسي
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال