مصر لا تحتمل ثورة جياع، وتحتاج إلى نسف كامل للهيكل الراسخ، وعلى العقلاء إعفاء أنفسهم من أي أمل في إصلاح خلال السنوات الأربع القادمة، والتفكير في التغيير الآمن.
ليس في عنوان “ما بعد السيسي” خطأ طباعي، كما أن العنوان واقعي جدا لا يحتمل مبالغة، ولا يحمل إساءة، ويوافق الطبائع البشرية الرافضة لتأبيد السلطة، ولا يخالف دستور العام 2014 وقد نصت مادته رقم 140 على أن رئيس الجمهورية “يُنتخب لمدة أربع سنوات ميلادية.. ولا يجوز إعادة انتخابه إلا لمرة واحدة”، وقد كان.
لم يظن أكثر المبالغين في تشاؤمهم أن تؤول ثورة 25 يناير 2011 إلى تنظيم الإخوان، كما لم تتخيل حشود 30 يونيو 2013 أن يكون ثمن النهوض من كبوة الإخوان باهظا، فيجري دفع الشعب إلى هاوية تبتلع كل يوم المزيد من الأشواق إلى الحرية، وجزيرتين مصريتين يُتنازل عنهما في تحد للإرادة الشعبية، ولهيبا في أسعار السلع والخدمات، وسنين من أعمار شبان وطلاب تظاهروا سلميا فترصّدهم قانون غير دستوري، وتهميشا لكل رأي رشيد يسدي نصيحة يفترض أن يراها العاقل فرصة لتحميل الناصح جانبا من المسؤولية.
من كان يدري أن تكون مصر مسرحا لتراجيديا عصرية بطلها رجل يغض الطرف عن مصائر أسلافه
خطورة هذه الكوارث المتوالية أنها بلا سقف يمنح أملا في نهاية إنسانية لائقة بما ضحى من أجله الشعب، وما حلم به منذ اندلاع ثورة هدفها التغيير والعدل والحرية. ويبدو الأمل مرهونا ببداية جديدة ومختلفة تلي حكم عبدالفتاح السيسي؛ فبعد فترة أولى مدتها أربع سنوات تأكد للذين خايلهم حلم العدالة الاجتماعية أنه امتداد لأنور السادات وحسني مبارك ومحمد مرسي، نسخة غير منقحة ومزيدة بالثقة المفرطة، والأمان لمكر الشعب، والجرأة على اتخاذ قرارات مهما تكن قاسية وكارثية.
لم يمر المصريون بهذه الحالة من “كسر النفس” مثلما يجري الآن، ربما جربوا هذا الشعور تحت وطأة احتلال. لم تكن لدى الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش أزمة في أن يأمر بتأجيل تنفيذ حكم الإعدام في صدام حسين إلى ما بعد عيد الأضحى، ولكنه أراد كسر نفس الشعب العراقي، بمن فيهم ضحايا صدام، ورجع العراقيون وعموم المسلمين من صلاة العيد، وقبل الاطمئنان على أضحياتهم، فوجئوا بأن الأميركان سبقوهم إلى التضحية بصدام فجر 30 ديسمبر 2006. وكذلك انتهى المصريون من صلاة عيد الفطر 1438 هجري (25 يونيو 2017)، وفوجئوا بتهنئة رئاسية غير تقليدية، واستقبلوا بالوجوم خبر تصديق السيسي على ما سمي اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية. ولم ترصد دراسة كم أنفق على أدوية أمراض القلب والاكتئاب وضغط الدم في ذلك العيد الكئيب وما تلاه، فما أفدح الشعور بفقدان ابن في غير حادث، بتنازل ولي أمره عنه. ربما يفسر هذا التساهل خطاب كاشف للسيسي يستبعد نداء “أيها الشعب”، و“أيها المواطنون”، ويخاطب الشعب دائما “يا مصريين”. وليس من أهل الثقة في الدوائر القريبة من السيسي رجل رشيد يفهمه أن هذا النداء يذهب بقائله إلى منصة الغزاة، وكان لنابليون نداء قريب يستميل به “المصريين”، ويصطنع به شرعية بالتحريض على المماليك والتذكير بمساوئ حكمهم، وليس للغازي أن يقول: أيها المواطنون.
سينتهي حكم السيسي عام 2022، وأمام مصر أربع سنوات لإعادة ترتيب أوراق المستقبل، أربع سنوات وقت قصير ولكنه كاف لتغيير آمن
سينتهي حكم السيسي عام 2022، وأمام مصر الآن أربع سنوات لإعادة ترتيب أوراق المستقبل، أربع سنوات وقت قصير ولكنه كاف لتغيير آمن. في يناير 2011 كنا 80 مليونا، وخلال سبع سنوات صرنا 100 مليون، وبعد أربع سنوات سيزيد عدد الناخبين بما يصعب معه تزوير إرادة الشعب. ومن دون هذا الوعي بالزمن، سنفتح أعيننا بعد أربع سنوات ونفاجأ بنور الحقيقة يصدمنا فنتفاداه بإغماض الأعين، ونترك الملك للمالك، والبلد لجلاديها، ونردد “البلد بلدهم”، ونفرح بجلد الذات، أو أن نأخذ بحقنا شتائم، ونداوي آثار الدكتاتورية بالسخرية، أفيون العجزة الراضين بالقهر والغلبة على أمرهم، في حين يطمئن معاوية في قصره، ويقول “إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا”، وفي فترة لاحقة سيُحرم المقهورون من الاستمتاع بأفيون السخرية حتى في مواقع التواصل الاجتماعي.
في النظر إلى التاريخ وإلى ما جرى، لا يصح قول “لو”، فمن كان يدري أن تكون مصر مسرحا لتراجيديا عصرية بطلها رجل يغض الطرف عن مصائر أسلافه، ولكنه يصر على خوض الطريق إلى نهايته، وقد امتاز عن السابقين بترحيب شعبي استباقي غير محدود ربما لم يحظ به حاكم في العالم، وطبع البسطاء صوره وبطاقات هوية رمزية له في الشوارع، وبدلا من استثمار هذا الرصيد في رفض التبعية، والاستقواء بالشعب في مواجهة محاولات لتقزيم مصر، لم يسعفه الخيال إلا بنصيبه المحدود، وتفنن في تبديد رصيده، فأصاب المتحمسين السابقين بخيبة أمل، وفقد الهيبة اللائقة بمن يمثل مصر.
لا يعرف عن المصريين سابقة غدر، ويؤمنون بالقدر، ويشتهرون بطول البال، والصبر على المكاره، ولكنهم ولو صفحوا فلا ينسون. والعهد الذي بينهم وبين الحاكم هو الدستور، الكلمة. وكان السيسي في بداية حكمه الرسمي عام 2014 قد طالب الشعب بأن يمهله عامين، يمهله ولا يهمله، لكي تتحقق وعود التحسن في أحوال المعيشة، وقبل نهاية المهلة ازدادت الأحوال سوءا، فطمأن الناس في أبريل 2016 قائلا “لن يحدث تصعيد في الأسعار للسلع الأساسية.. وعد إن شاء الله، وعد إن شاء الله”، وطلب أن نصبر عليه ستة أشهر أخرى، وأمضى أربع مدد كل منها ستة أشهر قال في ختامها في نهاية رمضان الماضي (منتصف يونيو 2018) إن الأيام القليلة القادمة، عقب عيد الفطر، ستشهد بشرى سارة، ومضى يوم العيد (الجمعة 15 يونيو 2018) بسلام، بغير تنازل عن جزيرة أخرى، ليفاجأ الشعب في اليوم التالي وهو عطلة رسمية برفع أسعار الوقود بنسبة 66 في المئة، في وفاء جديد لصندوق النقد الدولي وشروطه الصارمة التي تحدد السياسات الاقتصادية.
مصر لا تحتمل ثورة جياع، وتحتاج إلى نسف كامل للهيكل الراسخ، وعلى العقلاء إعفاء أنفسهم من أي أمل في إصلاح خلال السنوات الأربع القادمة، والتفكير في سيناريو التغيير الآمن.
سعد القرش - روائي مصري
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال