حاورت مع عدد من الاردنيين الوطنيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة ومنهم من يدرس هنا دراسات عليا حول ما يجري على الساحة الاردنية من مظاهرات. فكان الجواب بالاجماع: طفح الكيل. لاول مرة يجتمع كافة ابناء الوطن من كافة المناب والاصول والتيارات السياسية بما فيها الاخوان المسلمون في مسيرة عفوية للمطالبة بحقوقهم والضغط على الحكومة باحترام ارادة الشعب. باختصار لم يعد لدى الشعب ما يخسره.
كنت في مقالات سابقة قد تحدثت عن أن معاناة الشعب الاردني لم يشهد لها التاريخ من قبل لأن عدوه من ابناء جلدته وهذا ما اسميه الارهاب الداخلي وهم حيتان المال والاعمال والسياسة ممن توارثوا البلد. فابن الفلاح الفقير يولد مزارعا ويذهب للتعلم على أمل أن يصبح يوما في مكانة تليق بما درسه ليخدم بلده وشعبه. وابن البادية يذهب للدراسة من أجل النهوض بمجتمعه وبلده ويفاجأ بالمحبطات من الاعمال والعراقيل التي لو وضعت على جبل لهدمته. والمفاجأة أن رؤساء هؤلاء البسطاء من ذوي التعليم العالي هم ممن لم يتعلموا أو ممن اشتروا الشهادات وما أكثرهم في زماننا هذا.
المشكلة الحقيقية في الاردن يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور:
ـ الاول: إن من يسمون أنفسهم بالصف الاول من السياسيين والاقتصاديين ليسوا سوى قراصنة يغتصبون حقوق الاخرين وينسبونها لانفسهم. فبمجرد أن يصبح الواحد منهم في منصب يبدأ برنامج تعيين المعارف في المناصب لأن الحكومة شركة عائلية على سبيل المثال. فذلك مدير وذلك رئيس تنفيذي وهكذا وهم ممن لا خبرة لهم ولا معرفة في القطاع الذي يرأسونه.
ـ الثاني: إن من يُنظرون على الشعب بأن علينا التحمل لأن الموارد محدودة وغيرها يعلمون أن الموارد محدودة لانها ذهبت الى جيوبهم حصرا وبات الشعب نزيل الشوارع طريح الارصفة لا حول له ولا قوة مع كل رفع للاسعار بحجة عدم الحصول على الدعم الخارجي.
ـ الثالث: إن من يذهب الى غرب عمان ويرى ما به من فلل ومبان تصيبه الدهشة والذهول. ذهبتُ يوما مع وفد اميركي الى عبدون ودير غبار حيث اضطررت الى مجاملتهم ودعوتهم لمأدبة في احد المطاعم هناك وأثناء تجوالنا بالسيارة، قال لي احدهم: لا ادري هل هذا هو الاردن؟ ضحكت، وقلت نعم، ولكن هي منطقة في عمان يقال لها عبدون وتلك دير غبار يقطنها كبار المسؤولين وأرباب المال والاعمال. فقال أحدهم: لا أدري لماذا تعطي حكومتنا (اي الولايات المتحدة) المساعدات لكم إذا كان هذا هو الواقع في الاردن؟! فقلت: انتظروا حتى نذهب الى ما يمثل الاردن فعلا: فأخذتهم الى شرق عمان، والمخيمات وعدد من المحافظات، وشاهدوا الفروقات بأعينهم.
وكانت ردة فعلهم الطبيعية هي: هناك عالمان: بعض من غرب عمان وباقي الاردن.
لقد زاد الدين العام منذ “الربيع العربي” ووصل إلى 91 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي من أصل 39 مليار دولار قيمة الناتج المحلي وهي نسبة تذكرنا بما كانت عليه الأوضاع في عام 1991 إذ وصلت نسبة الدين إلى 93 في المائة. واليوم وصل الدين العام إلى حدود خطيرة 26 مليار دولار وفق بيانات عام 2016 كما أن التضخم وصل إلى حدود -1 بالمائة مع عحجز تجاري وصل إلى 10 مليار دولار. والأخطر من ذلك كله هو أن نسبة الفقر قد وصلت حسب البيانات الرسمية إلى حدود 14 بالمائة . ويشار هنا إلى أن الأردن قد تلقى مساعدات خارجية وصلت في العام 2017 إلى 1.47 مليار دولار. وعندما تكون 65 في المائة من الدين العام بالدينار الأردني ومحلية مع تلقي أصحاب تلك المبالغ فوائد عليها فإننا نرى أن الاقتصاد الأردني مبني على أفراد لا هيئات اي أن من يتحكم بالوضع العام هم أفراد.
حين يتحدث مسوؤل سابق تسبب في الازمة الحالية للاقتصاد الاردني ويقول لا بد من أن يتحمل الشعب الضغوطات التي تعاني منها البلد لأن لا حلول في الافق، هو يعني بالتأكيد أن على الشعب أن يدفع أخر قرش في جيبه حتى تمتلأ جيب ذلك المسوؤل، وما أكثرهم في الاردن ممن يتاجرون بالوطنية وهم منها براء!.
لقد تم تهميش المواطن وأبعد عن كل القرارات التي تخدم مصلحته بل إنه تم تجريم المواطن لمطالبته بابسط حقوقه التي أكلها وشرب عليها الفاسدون ممن نهبوا المال العام والمعونات الخارجية. في الماضي، كنا نعيش في الاردن لا نعرف غنيا ولا فقيرا، اي كنا نعرف الاغنياء بالعدد وباقي الشعب طبقة متوسطة وقلة قليلة هم الفقراء. أم اليوم، فالتغت الطبقة الوسطى وتحولت الى الشريحة الكبرى من الطبقة الفقيرة ما زاد الهوة بين الاغنياء والفقراء.
مل الشعب من الوعود الكاذبة للحكومات المتعاقبة من أن المعضلة ستحل وأن البلد سيخرج من عنق الزجاجة عن قريب. تلك وعود سمعناها منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي ولا نزال نسمعها وعنق الزجاجة لا يزال كما كان بل دخل البلد في نفق مظلم طويل.
إن المظاهرات التي جرب في الاردن في 30 مايو الماضي والاعتراض على رفع اسعار البنزين بعد ساعات من الاعتصام يعطي دلائل كثيرة منها أنه لن تعود عقارب الساعة في الاردن الى الوراء – اي الى ما قبل يوم التظاهر الذي دعت اليه النقابات المهنية. كما أن الاردنيين على اختلاف مضاربهم ومشاربهم ما عادت تعنيهم حكومة ما او تعديل ما طالما لم تتبن تلك الحكومة او غيرها حلولا جذرية لمآسي الاردنيين اليوم.
إن الشعرة التي قصمت ظهر البعير كما يقول المثل جاءت من القانون الجديد لضريبة الدخل الذي لن يطال أو يؤثر على الاثرياء إطلاقا بل سيؤثرعلى الطبقة الكادحة التي فقدت الامل في العيش الكريم وفي التكيف مع الواقع الجديد الذي اريد منه تغيير التركيبة الديموغرافية والهيكل الاجتماعي للمملكة بما يخدم الترانسفير الجديد.
نعم، راهن عدد من الدول المجاورة للمملكة على أن الاردن لن يتحمل هزة اقتصادية مثل هذه. رهانهم خاسر لأن الشعب الاردني تحمل ما لم يمكن أن يتحمله غيره من ضغط اقتصادي مارسه الجميع على مدار سنوات، تنصل منها المانحون مما تعهدوا به للاردن. كل ذلك للضعط على القرار السياسي الاردني تجاه القضية الفلسطينية والسورية وغيرها من ملفات المنطقة التي يختلف فيها الاردن مع اشقائه العرب عليها. وقد ظهرت تلك الخلافات على السطح مؤخرا وبدت واضحة. وكان حديث جلالة الملك عبدالله الثاني في هذا الموضوع في عدة مناسبات فيه من الدلالة ما فيه.
ويمكن القول إن المشكلات الاقتصادية في دول الخليج قد فاقمت من المشكلات الاقتصادية في الأردن ناهيك بتراجع كبير في المساعدات الخارجية والاستثمار والأموال التي تصل من الخارج (إذ تشكل تلك 15-18 في المائة من الناتج المحلي الخام). ولما كان الاقتصاد الأردني يعتمد في نموه على المساعدات الخارجية التي باتت محدودة في الوقت الحالي، فإن الحل يكمن في الاعتماد على ما لدينا والإسراع في سرعة دوران النقد وعدم تكديسه لدى البنوك للتسريع في عملية التطوير والنمو الحقيقي بدل الاعتماد على الخارج وانتظار وعود “عرقوب” لأن الحال اليوم سيسحق ما تبقى من طبقة وسطة في المملكة ما لم يتم التنبه لذلك مع الاهتمام بكل المحافظات وليست عمان وحدها لأن الأردنيين انتصروا على عاصفة “الربيع العربي” وشعروا بنشوة النصر تلك ومن حقهم أن تكون حقوقهم محمية.
نعلم أن ضريبة الدخل موجودة لدى كل دول العالم ولكن آلية عملها في الاردن مختلفة تماما. كيف يمكن أن تفرض ضريبة على شخص عاطل عن العمل؟ هذا هو القانون الجديد وفق البند 22 منه؟ أين الحكمة من هذا؟ وهل يقاس الاردن بالدول التي توفر بدل العطالة لمواطنيها مثل الولايات المتحدة وغيرها ممن تطبق قانون الضريبة على الجميع ولكن عند اقرار الدخل لا يدفع المتعطل عن العمل دولارا واحدا للحكومة بل يأخذ منها بدل عدم حصوله على فرصة وظيفية مناسبة له.
في الختام، الاردنيون مع القيادة الهاشمية ومع كل ما هو في مصلحة الوطن. حمى الله الاردن. هي غيمة سوداء سببها القريب قبل الغريب. ستنزاح هذه الغمة وينقشع الضباب ولكن على الحكومة الاستماع الى ضمير الشعب لا ضمير المنظمات الدولية والمعونات المُسيسة وبعض القائمين عليها من مسوؤلين تاجروا بالوطن والمواطن.
لا يريد الاردنيون برامج إصلاحية قاسية تفرغ ما تبقى في جيوبهم، إن بقي فيها شيء، وتثري جيوب غيرهم ممن أثروا على حساب المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة ولا واسطة. كما يجب أن يفعل مبدأ من أين لك هذا ولا أن يفعل على أناس يتلقون مساعدات وحوالات من ذويهم في الخارج ممن اغتربوا وفقدوا أحلى لحظات حياتهم مع من أحبوا فباتوا أغراباً في مساكنهم اليوم وفي أوطانهم.
تبدو تلك هي المكاشفة الأولى للملك للشعب الأردني بأنه على الأردنيين الاعتماد على قدراتهم ومقدراتهم من أجل بناء اقتصادهم وفي ذلك إشارة إلى أنه سيدعم الحكومة للنهوض بالمجتمع والاقتصاد نحو الأفضل.
شهاب المكاحله - واشنطن
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال