كان موضوع امتلاك صدام حسين، لأسلحة الدمار الشامل هو الذريعة لاستباحة الأراضي العراقية من طرف أمريكا والدول الغربية وبعض الأنظمة العربية التي اختلفت مشاركتها في الحرب على العراق إما بصفة فعلية أو بالتمويل أو بالتأييد السياسي أو بالصمت والحياد السلبي. ثم بعدها تبين أن النظام العراقي السابق لم يتوفر يوما ما على أي سلاح للدمار الشامل، وانتهت الكذبة بدمار بلد بأكمله ونهب ثرواته من طرف النظام السياسي العالمي قبل عصابات السطو من الداخل والخارج، وكنا أمام أزمة إنسانية شاملة ما زال الشعب العراقي يعيش تداعياتها إلى يومنا هذا.
بعدها اكتشف النظام الغربي وعلى رأسه أمريكا أن العرب فعلا يملكون أخطر سلاح للدمار الشامل على الإطلاق وهو الغباء السياسي، فكانت ثورات ما عرف بالربيع العربي التي اندلعت شرارتها من واقع يحمل جميع مقومات الانفجار الاجتماعي، بالنظر لما تعانيه شعوب المنطقة من ظلم متعدد الأبعاد جعلها تتخبط في تخلف مركب لم تجن منه إلا الفقر والجهل. فهرولت هذه الشعوب وبشكل عفوي، إن لم نقل ساذج، وراء كل صيحة تبشرها بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، وامتلأت الشوارع والساحات بأمواج بشرية تطالب بالتغيير وسقوط النظام، لتتهاوى أمامها بعض الأنظمة التي عمرت لعقود حتى اعتقد البعض أنها قدر لن يزول أبدا. وتعاطت أنظمة أخرى مع الوضع بدهاء باركته الأنظمة الغربية لضمان استمرارها معالِجة العدوى بوصفات اعتبرت استثنائية مددت في عمرها. ثم بقيت الحالة السورية التي شدت عن كل النماذج التي شاهدناها في المنطقة وراحت تتماهى مع ما حل بالعراق من دمار شامل لكن مع خصوصية صمود النظام السياسي واستمرار دمار البلاد والعباد بشكل أكبر وأعنف لمدة سبع سنوات حتى الآن، دون أن يتراءى في الأفق أي بصيص للخلاص.
حل الدمار الشامل بسوريا، الحضارة الأعرق أرضا وعمرانا وإنسانا، وما زال الدمار مستمرا بمختلف أبعاده، والسلاح هو الغباء السياسي العربي على مستوى الأنظمة والنخبة على السواء.
النظام السوري ومطلب الديمقراطية:
يعتبر البعض أن مسؤولية ما تعرفه سوريا تقع على عاتق النظام السوري وبالتحديد الرئيس بشار الأسد الذي واجه الانتفاضات الأولى لشعبه بالقمع الشديد، قتل واختطافات وتعذيب واعتقالات، كما أنه نظام غير ديمقراطي يحكم قبضته الأمنية ويسيطر على جميع تفاصيل الحياة بسوريا، وهذا حقيقي ولا يمكن تغييبه عند أي تحليل موضوعي للوضع السوري. لكن هناك عدة أسئلة تفرض نفسها علينا وتحتاج الوقوف عندها، هل يمكن التأسيس على كون النظام السياسي استبدادي للقبول بتدمير البلد وإبادة شعب؟، هل نستطيع أن نكرر التجربة مع أي نظام سياسي عربي مستبد وذلك من خلال تسليح شعبه لتغيير نظامه بأي ثمن؟، هل وضع الشعب السوري حاليا أفضل مما كان عليه قبل الثورة المسلحة والتي ما زالت مستمرة بدون أفق؟، هل الوضع في الدول العربية خاصة منها الداعمة للثورة المسلحة على النظام السوري أفضل من الناحية السياسية من النظام السوري قبل الثورة؟، هل هناك مشروع سياسي بديل للنظام السوري الحالي، وهل هو إسلامي كما تطالب بذلك المعارضة المسلحة أم مدني ديمقراطي كما تطالب به المعارضة الديمقراطية ؟ وما هي آليات تنزيله في الوضع الحالي؟، ما هي الضمانات التي مكن أن نتفادى معها الوقوع في نفس المصير الليبي الذي يشهد تطاحنا داخليا بين فصائل موالية لدول عربية منذ إسقاط نظام القدافي؟.
القوى المعارضة والمشروع السياسي:
عند الحديث عن المشروع السياسي البديل بعد إسقاط النظام السوري يجب أن نقف عند المشهد المعارض لهذا النظام والذي يمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حيث يبدأ من مشروع الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة وفق الفهم السلفي للنصوص، ممثلا في الجماعات المسلحة، والذي تتعدد فيه المرجعيات السياسية والحركية، ثم جماعة الإسلام السياسي ذات التصورات المعتدلة وفي طليعتها تنظيم الإخوان، مرورا بالمعارضة الديمقراطية التي تطالب بالدولة المدنية والمعارضة اليسارية بمعتدليها وراديكالييها، بالإضافة إلى الجماعات الإثنية كالأكراد والآشوريين والتركمان.
وفي هذا الصدد يمكن أن نستعين بتجربة ما عرف بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الذي تأسس بعد انطلاق الثورة السورية وضم بين صفوفه تمثيلية معظم قوى المعارضة، حيث تشكل في البداية من 63 عضوا، منهم المجلس الوطني السوري، والهيئة العامة للثورة السورية، ولجان التنسيق المحلية، والمجلس الثوري لعشائر سوريا، ورابطة العلماء السوريين، واتحادات الكتاب، والمنتدى السوري للأعمال، وتيار مواطنة، وهيئة أمناء الثورة، وتحالف معا، والكتلة الوطنية الديمقراطية السورية، والمكون التركماني، والمكون السرياني الآشوري ، والمجلس الوطني الكردي، والمنبر الديمقراطي، والمجالس المحلية لكافة المحافظات، إضافة إلى بعض الشخصيات الوطنية وممثل عن المنشقين السياسيين. وبدأت تظهر في هذا الائتلاف خلافات وانشقاقات، مع انطلاق مسلسل المفاوضات من أجل الحل السياسي، الذي بدأ بمنصة جونيف ثم توزع على منصات أخرى فرضتها ولاءات التنظيمات المذكورة للدول الراعية لمشروعها، فأصبحنا نتحدث عن معارضات تنتسب إلى عواصم مؤثرة، كمعارضة الرياض، ومعارضة القاهرة، ومعارضة موسكو، ومعارضة أنقرة، ومعارضة باريس.
والسؤال الكبير الذي يطرح في هذا السياق هو: ما هو المشروع السياسي الذي ستجتمع عليه مكونات الشعب السوري، بما فيها الجزء الذي يدعم النظام الحالي والذي لا يمكن بأي حال من الأحوال إقصاؤه من المعادلة؟ وما هي الآلية الناجعة لإقرار هذا المشروع أمام التباين الصارخ بين مرجعيات مختلف هذه المكونات؟
موقف الدول العربية:
تسعى مجموعة من الدول العربية، ومنذ انطلاق الثورة السورية، إلى تقديم نفسها كمناصر للشعب السوري، رافعة مطلب إسقاط نظام الأسد وتحرير سوريا من بطشه واستبداده وتمكين الشعب من حريته وحقه في اختيار نظام حكمه. غير أن المفارقة الغريبة هي أن جل هذه الدول التي تدخلت مباشرة في الشأن السوري تعاني بدورها من نفس الإشكال السياسي، حيث تفتقر للديمقراطية نظام الحكم الرشيد، بل منها من لا يتوفر حتى على الدستور أو أي آلية فعالة للتداول العادل على السلطة، وكذا الحد الأدنى من الحقوق الأساسية للمواطن. ومع ذلك، نجد أن هذه الدول رصدت أموالا هائلة لتحقيق أهدافها، سواء من خلال إنفاقها على المعارضة التابعة لها، أو من خلال دعمها للجماعات المسلحة، أو من أجل ضمان التأييد الدولي، وهو ما ساهم بشكل واضح في احتدام الصراع على الأرض الذي زاد في حدة دمار البلد وتصعيد وثيرة الاقتتال الداخلي والتشريد والنزوح فرارا من الحرب. فكان هذا الموقف العربي سببا إضافيا في هذا الخراب والضياع اللذين حلا بالشعب السوري عوض مساعدته على إرساء الديمقراطية والحقوق التي بشر بها عند انطلاق ثورته. بل إن الدول العربية المعنية لم تعد مواقفها مرتبطة بمصير الشعب السوري أكثر من تركيزها على إسقاط النظام السياسي إن لم نقل شخص بشار الأسد بالتحديد وبأي ثمن، لدرجة أنها استعملت لتحقيق ذلك جماعات مصنفة على لائحة الإرهاب ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وأودت بأرواح الآلاف من الشعب السوري تكاد تضاعف ما ارتكبه النظام السوري. ثم بدأت بعد ذلك تطالب بالتدخل الخارجي بحجة استعمال النظام للأسلحة الكيماوية، وهو ما أعادنا إلى الوضع العراقي على عهد صدام.
إلى جانب هذا، أسفرت الحرب السورية على تشظي أكبر للوضع العربي الذي لم يكن في أحسن أحواله، حيث أضحت المنظمة العربية الفاقدة أصلا لأي فعالية، لا جامعة ولا عربية، بل منصة لتصفية العداوات بين الحكام العرب والتلاعب بالموقف السياسي لفائدة تكتل دون الآخر، بشكل أضعف مواقف الجميع وعطل مصالح الشعوب العربية، التي كانت معطلة أصلا، وفي مقدمتها قضاياها العادلة، كقضية الشعب الفلسطيني.
الموقف الأمريكي والغربي:
لم تستفد الدول الغربية وأمريكا من الدرس العراقي حين دمرت البلد بذريعة تغيير نظام صدام حسين الذي نسبت له امتلاك أسلحة الدمار الشامل، والتي زعمت أنها قد تصل إلى أيدي الإرهابيين. فكانت النتيجة انتشار الإرهاب أكثر فأكثر، وتورط الجيش الأمريكي وغيره من الحلفاء في جرائم وممارسات فظيعة بالعراق وانتهاك الشرعية الدولية، قبل أن تعلن أمريكا انسحابها واعتراف بعض مسؤوليها بأنها غالطت الرأي العام العالمي بأكذوبتها التي أدخلت البلد العربي الأقوى قبل الغزو، في حرب وأعمال عنف ما زال الشعب يكتوي بتداعياتها إلى الآن. وها هي تعاود الكرة من جديد مع القطر السوري من خلال موضوع استعمال الأسلحة الكيماوية من طرف النظام للحد من تقدم الجيش السوري على الأرض والذي استعاد في الشهور الأخيرة السيطرة على نسبة كبيرة من الجغرافية السورية. وهي الذريعة التي بررت بها أمريكا عدوانها وغاراتها التي كان آخرها ما شهدنا يوم السبت 13 أبريل 2018 من قصف صاروخي ثلاثي شنته أمريكا وبريطانيا وفرنسا، على مواقع سورية. والذي مع الأسف أتى استجابة لمطالبة بعض الدول العربية الداعمة للمعارضة، حيث تزامن اتخاذ قرار العدوان مع الزيارات التي قام بها ولي العهد السعودي لكل من ترامب وماي ومكرون، والتي توجت كلها بتوقيع اتفاقيات وصفقات مهمة لفائدة دول الرؤساء الثلاث. بل إن مسؤولي بعض الدول العربية صرح بعد إعلان التحالف الغربي قصف سوريا عن استعداده للمشاركة الفعلية في العدوان، وهي نفس الرغبة التي عبر عنها الكيان الإسرائيلي. غير أن هذا الموقف الأمريكي والغربي يضع النموذج الديمقراطي الغربي أمام حرج كبير، نظرا لما أبداه من ضعف شديد أمام المال الخليجي، والذي أكد وبشكل واضح خلال السنوات الأخيرة أنه يستطيع التحكم في المزاج السياسي الدولي، خاصة الذي تقوده أمريكا، ويصل إلى حد تطويع القرار الأممي لخدمة بعض النزوات السياسية لقيادات عربية، خصوصا إذا تعلق الأمر بصراع عربي – عربي.
د. خليل الإدريسي - دكتور في التواصل وتدبير المنظمات المجتمعية
وباحث في العلوم السياسية بجامعة غرناطة
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال