يمكن اعتبار الرواية ضمن بعض التصورات بوصفها “رواية” عن روايات وكتاب سابقين، وكأنها محاولات لإعادة التفكير في الكتابة ذاتها، إذ يتداخل النقد الأدبي مع العمل الروائي والنص التاريخي وغيره من المرجعيات، بحيث تصبح الرواية جهداً قائماً على أساس الوعيّ بالكتابة والأخذ بعين الاعتبار تاريخانيّة السرد ومجموع النصوص التي تكوّنه، ليتداخل الواقعي والفانتازي، بصورة تدفع القارئ إلى التشكيك في كل ما سبق، وفي حقيقة ما يقرأه إن كان واقعياً أو متخيلاً، ليصبح النص في هذه الحالة انتقادا للحقيقة الواقعية من جهة، وللأشكال السرديّة من جهة أخرى.
تصف الصحافيّة إلينا جيرادون الكاتب الأرجنتيني سيزار آيرا بأنه يقسّم نهاره للقراءة كما يقسّم الوجبات، ففي الصباح يقرأ الدوريات والصحف، النثر بعد الظهر، وليلاً يقرأ الشعر، وكل ليلة عند الساعة التاسعة والنصف يشرب الويسكي، آيرا الذي يعمل في الترجمة والنقد الأدبي صدر له ما يفوق الثمانين رواية، لا يتجاوز حجم الواحدة منها المئة صفحة، وذلك بمعدل واحدة أو اثنتين في العام، وهذا العام صدرت أول ترجمة له باللغة العربيّة عن دار مسيكلياني التي قدمت للقارئ العربي نوفيلا “المؤتمر الأدبي” ترجمة عبدالكريم بدرخان، وفيها نكتشف مغامرات وتقنيات اللعب والسرد التي يمارس فيها آيرا مخططه الجهنمي للسيطرة على العالم.
عناصر اللعب والمزاح
يمكن اعتبار اللعب بأشكاله حالة من الحنين نحو وضعية لا سلطة فيها، هو إعادة تعريف للإجماع، وكنشاط بشريّ يحمل في داخله محاولات للانعتاق، وتمرينات على النجاة والبقاء، أو تسليّة في محاولة لمحاكاة احتمالات لا تحويها أدوارنا الاجتماعية المفروضة علينا، وكأنه تعبير فطريّ عن الرغبات الإنسانيّة، أما الألعاب في السرد، فتحمل قيمة نقديّة وجماليّة، وهذا ما نراه في قسمي النوفيلا، فالأول بعنوان “خط ماكوتو” نقرأ فيه عن آيرا نفسه المدعو إلى مؤتمر أدبيّ في فنزويلا، وهناك يحدثنا عن خطّ ماكوتو، الأحجية الأسطورية التي يختبئ وراءها كنز قديم، لتبدأ بعدها اللعبة، فآيرا أمام لغز إذا حلّه أصبح غنيا.
وإثر سلسلة من الاحتمالات لإيجاد الحل يشرح لنا كيف سيصل إلى الحل، وهذا أشبه بمن يدرس ويكتشف أوجه النرد، فهو يحدثنا عن المصادفات، وكيفية تراكمها، وكيف أنه الوحيد القادر على حل هذه الأحجية، وأوديب يقف أمام السفينكس، فآيرا يستخدم مجازات وألاعيب لغوية تنتمي إلى عالم الأدب، لتغدو الممارسة النقديّة والأدبية هي الوسيلة لحل الأحجية.
هذه الممارسات مرتبطة بصنعة الكتابة نفسها وآليات “السرد” لحل اللغز، الذي يصبح هو النص نفسه، ليتضح اللعب هنا على مستويين، الأول عبر فضح تقنيات الحكاية وكيفية اختيار الجمل و”مونتاج” الفقرات والحكاية بحيث لا تصبح مملة، بل ممتعة كلعبة، أما الثاني فنراه على صعيد الموضوعات التي يقدم فيها آيرا حقائقه الخاصة وتصوراته اللاواقعيّة، وهذا ما يتضح في القسم الثاني من النوفيلا، فنحن أمام “بارودي” للخيال العلميّ، الكاتب والمترجم فيها هو حقيقة عالم يريد السيطرة على العالم وبناء جيشه الخاص.
الممارسة السردية في الرواية يمكن وصفها بما تسميه ليندا هيتشيون السرد النرجسي، القائم على الوعي الذاتي والوعي بالآخر
يحمل القسم الثاني من النوفيلا عنوان المؤتمر الأدبي، وفيه نقرأ العديد من الموضوعات التي يحتاج كل منها لتحليل منفصل، لكنا اخترنا تلك المرتبطة باللعب والقيمة النقدية التي يحويها والمتمثلة بالسخرية، هذه الموضوعة تتضح بالاستنساخ والألاعيب العلمية التي يمارسها آيرا ليخلق جيش العبيد الخاضع له، فالاستنساخ سخرية من الجينوم البشريّ، وآيرا العالم يريد أن يخلق مسخاً مثالياً، بشرياً مستنسخاً من أشد العينات كمالاً، هذه العينة بنظره هي الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس، وهنا أيضاً تبرز السخريّة والتهكم من الحظ الذي يحويه التكاثر البشريّ التقليديّ ذو الأساس العضويّ، في حين أن الاستنساخ يمثّل نقيضه، هو ليس برمية نرد، فحينما نتكاثر جنسياً، نحن نراهن على الاحتمالات وعلى نتائج غير حاسمة، في حين أن الاستنساخ نتائجه مضمونة، تقنيات سايبرية وتكنولوجية قادرة على محاكاة الكائن البشري، وفي هذه الحالة فوينتس، لكن الاستنساخ أيضاً يسخر من عبثية القدر، هو علمي، رياضي واقتصادي، وانعكاس للكمال البشري الذي يمتلكه الفرد عن نفسه، وهنا تكمن المفارقة الكبرى في القسم الثاني، فعملية الاستنساخ التي يخطط لها آيرا تفشل، ليفاجأ آيرا بأفواج من ديدان القزّ العملاقة التي تهاجم المدينة وتحاول طحن سكّانها، وكأنّ كمال البشريّ عصيّ على الاستنساخ.
الوعي بالكتابة
يمكن وصف الممارسة السرديّة في المؤتمر الأدبي بما تسميه الناقدة ليندا هيتشيون السرد النرجسي، ومن أبرز خصائصها، هي الوعي الذاتي والوعي بالآخر، فالروائي آيرا يحضر في النص واعياً بذاته الحقيقيّة ومن حوله، ويمارس فعل الكتابة ليخبر القارئ مباشرة بما يحصل، فاضحاً تقنيات الكتابة وساخراً منها، كالتناص الذي يكرهه، مع ذلك يحضر سواء على صعيد النصوص أو الأنواع الأدبيّة، وهذا الوعي يجعل الكاتب والقارئ على مسافة حميميّة إذ نلتقط انقطاع أنفاس الكاتب ومحاولته لصياغة المعنى وأحياناً تفاديه.
كذلك يسخر آيرا من مكانة الكاتب نفسه، فهو أولاً عالم يريد السيطرة على العالم، وثمّة مصاص دماء يمتص “أسلوب الآخرين”، فمعارف آيرا الحقيقية تتداخل مع معارف آيرا في النوفيلا، فالإحالات للنقد الأدبي والخيال العلمي تجعلنا نشكّ بحقيقة آيرا ذاته، وهذه الثنائيّة بين الشخصيتين أشبه بلعبة تبادل الأدوار، تتم عبرها السخريّة من الادعاء النرجسي بـ”ملكيّة النص”، وكأن الكتابة عملية استنساخ، وكأنها محاولة فاشلة لضبط تهاوي العالم والسيطرة عليه.
عمار المأمون
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال