ما الذي سيرويه أحفادنا عام 2077 عن 'منتدى شباب العالم' أكثر من هتاف 'تحيا مصر'؟ ربما ينسون الهتاف، وينكسون الأعلام في الذكرى المئوية لزيارة السادات للقدس.
لن يبقى من “منتدى شباب العالم” الذي عقد في شرم الشيخ (5-9 نوفمبر 2017) بحضور ثلاثة آلاف شخص من 100 دولة بعض من آثار مؤتمر للأدباء العرب نظمته القاهرة قبل ستين عاما.
أن يعقد منتدى في منتجع سياحي فهو وعد بأيام استرخاء، ولو حشدوا له ممثلين وساسة وكتبةً موظفين وضيوفا متشابهين حد التنافر، أما أن ينظم مؤتمر في القاهرة فهو يقتبس شيئا من حمولتها التاريخية الرمزية. هذا ما أدركه جمال عبدالناصر من دون ادعاء أنه يخترع لشخصية مصر السياسية عروبة أو دورا. وبعد وفاته سيكتب عنه جمال حمدان أنه “أول من بلورها (هذه الشخصية) فكريا إلى حد ما ثم طبقها عمليا إلى أقصى حد، ونقلها من الفكر السياسي… إلى التطبيق السياسي”. عبدالناصر نفسه أحد آثار وعي عام أثمرته ثورة 1919، وألهم ثورة يوليو 1952، ونما على مهل وأفاد بروافد الفكر والمعرفة من المشرق والمغرب.
أن تكون مصر هي مصر فإن القاهرة تصير جاذبة، يترقب الزائرون بلوغها، ولا يخلو الأمر من فخر بالتخرج في جامعاتها، والمشاركة في أنشطتها التي ليست زبدا استعراضيا كرنفاليا يذهب جفاء، بل ستكون مما ينفع الناس، ويستحق أن يروى في هذه السطور بعد رحيل أغلب المشاركين فيه، أقصد مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد في ديسمبر 1957، ومراجعة أوراقه وأسماء حضوره تكفي للترحم على مصر- الدور، وللاختلاف مع جمال حمدان الذي توفي وهو لا يرى وريثا لمصر؛ “لأن وراثة مصر كانت أكبر من أي دولة عربية أخرى منافسة”، ولكن انزواء مصر، منذ مغامرة أنور السادات بالارتماء في المدار الأميركي بحفاوة إسرائيلية، أدى إلى صعود الورثة، ثم عثر مساكين مصريون على مصطلح “القوة الناعمة” فابتذلوه، ومنحهم كثيرا من العزاء، ولا يليق العزاء إلا بالموتى.
كما عثر المثقفون العرب منذ بداية السبعينات من القرن الماضي على اسم أنطونيو جرامشي (1891 – 1937)، وجدوا في تراثه أصدق تمثيل لهم، وهو ما أطلق عليه الطاهر لبيب “الصعود الجرامشي”. ففي عام 1970 كتب أنور عبدالملك عن مواءمة فكر جرامشي لمجتمعاتنا “ربما لما تجد أطروحات جرامشي عن المثقفين تأكيدا لها أكثر مما وجدت في العالم العربي”.
وبين الحلم وتحققه تفاوتت المسافات، فيلاحظ الطاهر لبيب أن الظاهرة الإسلامية في العالم العربي “أسهمت في إعطاء انطباع بحدوث قلب للمفاهيم مثير للدهشة: فالمثقف الذي يعتبر تقليديا أو سلفيا هو أقرب إلى المثقف العضوي في حين أن المثقف الذي يعتبر نفسه عضويا يميل لأن يصبح تقليديا… خلال لقاء جمع المثقفين اليساريين التونسيين عام 1988، تبين كيف تأخر الماركسيون في التعرف على جرامشي، في الوقت الذي كان الإسلاميون يطبقون بالفعل أفكاره لكسب المجتمع المدني”. ولا أظن طه حسين قرأ جرامشي.
ولكن كلمة أدباء مصر التي ألقاها العميد لم تكن احتفالية عابرة، في افتتاح مؤتمر يقام برعاية الرئيس المصري ويفتتح بحضور نائبه، ثم يستقبل عبدالناصر ضيوفه الأدباء في القصر الجهوري في 15 ديسمبر 1957. ألح طه حسين على مفهوم الحرية وأن الأدب “يجب أن يكون حرا، ينبغي أن يكون حرا لا يعتريه شيء، وذلك ضروري ليستطيع الأديب أن يؤدي دوره حقا، فالفنان الذي تفرض عليه القيود أو الذي يفرض على نفسه قيودا ليست فنية، ليس بالفنان، وهذا الأدب ليس أدبا”، ولم يغب عنه أن الكاتب يعيش مشروطا بزمانه ومكانه، ويخضع لأسباب الخير والشر في وطنه، وهكذا يكون “عليه واجبات لوطنه ومواطنيه.. الأديب لا يستطيع أن ينتج أدبه لنفسه لأنه لا يعيش لنفسه.. يجب على الأديب أن يقدر أنه حين يكتب وحين ينشر ما يكتب، إنما هو مسؤول أمام وطنه أولا ثم مسؤول بعد ذلك أمام كل الأمم”، ووصف الأدباء بأنهم من أولي العزم، فلا يستطيعون اعتزال الحياة، لأن الأديب الذي يعيش في برجه العاجي “إنما هو سخف من السخف”.
وأقرب المعاني إلى ما وصفه العميد تضمنته كلمة ممثل لبنان سليم حيدر الذي وجه ما يشبه الحملة على دعاة “الفن للفن”، وكان ديمقراطيا لا يقصى لونا أدبيا، “وليس في النية أن نجند التفكير العربي في خدمة فكرة، بحيث يكون لنا منه أدب تبشيري موثق، كأنه أملي على الأدباء إملاء… والفن للفن استهداف للجمال، للجمال الفني ليس إلا”.
في كلمة الجزائر وهي “تجاهد العدو الفرنسي بإيمان قوي” لم يجد إبراهيم غافر حرجا في أن يختمها ببيت الشابي الذي صار شعارا للثورات العربية (2011) “إذا الشعب يوما أراد الحياة…”. في كلمة تونس أشاد محمود المسعدي بدور الأدباء والمفكرين العرب “الذين عملوا بجهادهم المتواصل” على تحرير بلادهم من الاحتلال. وفي فورة المد العروبي نبّه إلى أن “ماضينا قد ألقى علينا درسا لا تقدر قيمته في الحرية والاختيار، وأن كل حصر أو ضغط أو توجيه للفكر لا يكون فيه على الفكر إلا الوبال والموت”.
فما الذي سيرويه أحفادنا عام 2077 عن “منتدى شباب العالم” أكثر من هتاف “تحيا مصر”؟ ربما ينسون الهتاف، وينكسون الأعلام في الذكرى المئوية لزيارة السادات للقدس.
سعد القرش - روائي مصري
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال