يتجرع حزب "العدالة والتنمية" المهانة تلو الأخرى هذه الأيام .. الأنكى أنه لا يكتفي بابتلاعها في صمت بل لا يجد غضاضة في إيجاد المسوغات لهذا الإذلال العلني ويسوق له المبررات.
لم يكتف الحزب بالتضحية بأمينه العام وبتصفية تركته السياسية، بل إنه قدم ، في ما يشبه الانبطاح والتزلف، حزمة من التنازلات للقصر مؤلمة وغير مسبوقة بدءا بإبرامه صفقة مع النظام للالتفاف على مطالب الحراك الشعبي عام 2011، ومرورا بالمساهمة في إقرار دستور تقليداني، وإن ألبسوه لبوس الحداثة، وأخيرا وليس آخرا، تعبيد الطريق لولادة حكومة سعد الدين العثماني، "ابن عرفة" الجديد، وَفق اشتراطات القصر وإملاء وضدا على إرادة الناخبين وخياراتهم.
ذاكرة السيد العثماني الذي ارتضى لنفسه دورا لا يليق بتاريخه قصيرة على ما يبدو، إذ نسي جرعات الإهانة التي تعرض لها على رأس وزارة الخارجية وهي كثيرة.. ومنها منعه من زيارة قطاع غزة المحاصر ضمن وفد من جامعة الدول العربية، والتخلص منه في أول تعديل حكومي استجابة لضغوط أمريكية وسعودية وإمارتيه على خلفية دعوته في اجتماع لمجموعة أصدقاء سوريا لشطب جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حاليا) من قائمة التنظيمات الإرهابية.
وبهذا يكون القصر، الذي امتهن على مدى عقود طويلة حرفة ترويض الأحزاب جماعات وفرادى، قد حقق أكثر من مغنم، فهو تخلص من غريم سياسي أضحت شخصيته تحجب شخصية الملك وتغطي على شعبيته، ودق إسفين الانشقاق في صفوف حزب لطالما عرف بتماسكه ولحمته الداخلية بعد أن وضع رئيس الحكومة الجديد يده في يد قتلة سلفه (بالمعنى الرمزي).
لم يخرج هذا السيناريو عن دائرة التوقعات، بل إن إرهاصاته تبدت على مدى الأشهر الخمسة الأخيرة جلية واضحة. وكان مطلعها ، النفخ في زعامات سياسية جديدة لإعادة هندسة المشهد السياسي، وإصرار مريب على استبعاد حزب الاستقلال من تشكيلة حكومة بنكيران وفي متمها إلحاح غريب على إشراك حزب "الاتحاد الاشتراكي" ضمن مشهد يفضح إصرار الدولة وأجهزتها السرية والعلنية على تعطيل تجربة الإسلام السياسي في المغرب.
اختار بنكيران التطبيع مع الفساد ومهادنة القصر الى حد الخنوع، والتفريط في القناعات والثوابت، والتنازل عما منحه الدستور من صلاحيات، وآثر التمسك بمقولة "الإصلاح من الداخل" الساذجة وما هو بساذج، إلا أن كل ذلك لم يشفع له أمام الدولة العميقة أو "المخزن" وأذنابه. فقد نسي الحزب أو تناسى أن القصر لا يكن الكثير من الود للإسلاميين، ولا يرتاح لتمددهم ( وثائق ويكيليكس عام 2008)، بل تربص بهم وأوغر صدور الناس ضدهم ، وسخر أزلامه في الأحزاب والنقابات والإعلام للتشويش على تجربتهم.
لقد جازف الحزب بما تبقى له من رصيد من الشعبية لدى العامة، وفرط في ثقة الناخبين، وقدم طوق نجاة جديدا للاستبداد (على شاكلة ما فعلت أحزاب الكتلة الوطنية مع الحسن الثاني)، بينما جازف النظام، وقد استعاد توازنه بعد "الربيع العربي"، بالتفريط في دعامة أساسية كانت تقف سدا منيعا بينه وبين الشارع وتقلبات مزاجه.
سيفتقد البرلمان غمز ولمز بنكيران، وروحه الساخرة وتراشقه الكلامي مع خصومه، وستختفي تلميحاته الماكرة وتصريحاته الصادمة من معجم التداول السياسي في جلسات البرلمان المملة. وستفتقد الصحافة الصفراء مادة دسمة كانت تقتات عليها على مدى خمس سنوات ونيف. في مقابل ذلك كله فقد المواطن الثقة بالساسة والسياسيين، وكفر بصناديق الاقتراع، وأعرض عن مسرحية سيئة الإخراج اسمها "الاستثناء المغربي".
يحيل هذا الأمر برمته الى حقيقة واحدة لا لبس فيها، والى واقع سياسي تسوده هيمنة مؤسسة واحدة يملك فيها الملك صلاحيات مطلقة، ويحتكر سلطة لا يبدو أنه على استعداد لاقتسامها مع بقية الشركاء السياسيين. وبهذا المعنى لم يكن المنعطف الذي شهده المغرب عام 2011 بفضل نضال حركة "20فبراير" سوى ترجمة لخيار استراتيجي أملته الضرورة وسرعان ما جرى التنكر له بعدما مرت العاصفة وعادت السكينة الى مياه السياسة الآسنة وسادت ثقافة الصمت والتواطؤ والخوف.
أنس بنصالح - صحفي/ lakome2.com
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال