لم يزعزعه ديكتاتوري أو حاكم مستبد، لم يهزّه التطرف أو الأسلمة، فهو من آمن بكلمة "ثورة" حتى لو قضت على أنفاسه، حتى لو التهمته، وهذا ما أسس لهذا الجسم الثوري في سوريا منذ العام 2000، وعلى الرغم من أنه من عائلة ثرية والأكثر ارستقراطية بين العائلات السورية، كان "عبداً فقيرا" للثقافة والحرية والعدالة، وما متعته سوى سماع الروايات عن رجل هزّ العقول بكلمات.
حادثة يكررها دائماً المفكر السوري العتيق الراحل صادق جلال العظم، يرويها بطريقته المعتادة في انتقاد النظام، بأسلوب ساخر، فعندما دعيَ إلى "قصر النبلاء" وهو مطعم شهير في دمشق، حيث يتواجد الرسميون وكبار المسؤولين من حزب "البعث"، دخل بسيارته الصغيرة والقديمة فاعترضه الحارس بقوة، ذلك ان السيارة أوحت للحارس ان العظم لا ينتمي إلى هذا المكان المخصص للنبلاء، وبوجود أشخاص حوله تحوّل الموقف إلى لحظة ضحك، خصوصاً عندما قال له العظم: "شايف الناس اللي جوا، أنا الوحيد النبيل بينهم"، اذ إن النزعة الاشتراكية كانت طاغية على العظم رغم انه ابن عائلة ثرية جداً وارستقراطية.
انها رواية من الروايات التي نقلها إلينا أصدقاء ومحبّو ومقرّبو العظم الذي فارقنا عن عمر ناهز 82 عاماً، رواية ذكّرنا بها الكاتب والمفكر السوري المعارض موفق نيربية، الذي تابع في الفترة الاخيرة حال العظم الصحية، ويقول لـ"النهار": "اكتشف العظم العام الماضي، وخلال تواجده في الولايات المتحدة ورماً في الدماغ، وتُرك الامر حينها للوقت ليتبيّن مدى تطوّر الورم، وعاد إلى برلين الصيف الماضي وهو مكان منفاه الأول وإقامته الأصلية، وبدأت هذه الكتلة تتطور أكثر إلى أن وصلت إلى مرحلة أثّرت على النطق والنظر، فلجأ الأطباء إلى عملية جراحية وسار الأمر إلى هذه النهاية".
ويتحدث نيربية عن أيام العظم الأخيرة، فهو التقاه 15 يوماً قبل مغادرته ألمانيا وكانت حالته حينها "أشبه بالاحتضار"، ويقول: "لم يكن العظم في غيبوبة بل كان واعياً لكن النطق كان صعباً ولا يمكن فهم كل الكلمات، لكن غالبيتها كانت تتعلق بالأمر الانساني، فهو ودّع الحياة برضى كامل، وكان مرتاحاً ويعلم إلى أين يتجه، فهو قام بما يمكن أن يقوم به، وأحد التعابير التي ردّدها منذ الصيف الماضي: "تعبت".
موعد العودة
رواية أخرى سردها لنا المعارض والمفكر ميشيل كيلو، وهو أحد أصدقاء العظم، وجميعها تظهر "ثورة" هذا الرجل على الواقع السوري بظل وجود حاكم مستبد. فعندما توفيت زوجته الأولى (لديه ولدان منها عمر وايفان)، زاره كيلو ومجموعة من الأصدقاء لتأدية واجب العزاء، وهناك لاحظوا وجود أحد ضباط الأمن، فاغتنم العظم الفرصة سريعاً، وانتقل مع اصدقائه إلى غرفة ثانية، وكأنه ارتاح من جلسة الضابط وتخلّص منه. كان العظم يفكر دائماً بموعد العودة إلى سوريا، فهو تركها ولم يعد منذ عام 2011، (بعد انطلاق الثورة) ويقول كيلو: "كانت هناك فكرة جدية باعتقاله، ومن اعتقل حينها تمت تصيفته ونسبت الاعمال هذه إلى ارهابيين".
كلمات ثائرة
ماذا عن موقفه من الثورة والنظام؟ بضع كلمات رددها كل من اتصلنا به، كلمات لا تفارق الذاكرة كتبها وقالها العظم: "الثورة السورية هي ثورة، سواء تأسلمت أو "تعلمنت"، هي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكل البديهيات القديمة. هي ثورة ضد التبرير والقبول الكاذب لواحد من أكثر الأنظمة الشمولية تفسخاً وعنفاً. كل من هو منخرط في جوهرها لا يخشى منها ولا يخشى عليها. كل من هو جالس على حافتها... سيصيبه الرعب منها. أصلا الرعب واحد من أهم سمات الثورات. الثورة السورية هي من أعمق ما قامت به جماعة بشرية في منطقة جغرافية على امتداد العالم. إيقافها مستحيل، ببساطة لأنها نضجت بفعل الزمن، ولا أحد يستطيع إيقاف الزمن. وانا العبد الفقير لله وحرية الإنسان سأبقى معها... حتى لو التهمتني، حتى لو كنت من ضحاياها... حتى لو دفعت الثمن غالياً جداً لا يقل عن حياتي... سأبقى منحازاً لها ما دمت قادراً على التنفس".
لم ترتعب فرائسه
هذه الكلمات ايضاً أثّرت بالمعارضة سهير الأتاسي فقالت: "الدكتور العظم شخصية تترك بصمتها حتى لو كانت اللقاءات معه قليلة، فهو من المفكرين القلائل النادرين الذين أيّدوا الثورة منذ بدايتها"، ولا تنسى أيضاً أن العظم كان من "الداعين إلى التظاهر والاعتصام أمام وزراة الداخلية في 16 آذار 2011 حينما طالبنا بالافراج عن كل معتقلي الرأي والضمير في سوريا وحينها تم اعتقالي"، لافتة إلى أن "دعم العظم للثورة والتظاهر كانت مبكرة وجريئة جداً، وكانت لديه خصوبة بالخصائص والأفكار التي بقيت داعمة لهذه الثورة وفي الوقت الذي تزعزع ايمان البعض بالثورة بعد عسكرتها كان العظم متمسكاً بها ولم ترتعب فرائصه عندما أصبح البعض يقول انها ثورة مسلحة او اسلامية، بل هو من اعتبر انها ثورة سواء تأسلمت او تعلمنت، وكان عنده ثقة بنفسه وانتمائه للثورة... كلماته تظهر عظمة هذا المفكر وانتمائه إلى سوريا الوطن والحرية والمواطنة".
منارة الأجيال
ونعاه أيضاً الائتلاف الوطني السوري، وتقول نائبة رئيس الائتلاف المعارضة سميرة المسالمة لـ"النهار": "يكفي أن العظم وقف مع الثورة رغم كل ما حلّ بها وبقيَ مخلصاً لفكرة الثورة"، وتعتبر أن "كل ما قدمه العظم قيمة مضافة للعقل العربي والتفكير النقدي العربي وهو منارة للأجيال القادمة في تخطيهم لفكرة الركون الى هيمنة السلطة والبحث عن حقيقة الأشياء من خلال الفكر الحر".
وجاءَ في النعي الذي نشرته المسالمة: "بمشاعر الحزن والالم نودع فقيدنا الكبير د. صادق جلال العظم المفكر والأكاديمي والفيلسوف والإنسان الجريء والنزيه والصادق الذي شكل علامة مميزة في الثقافة السورية والعربية في اعلائه شأن العقل والتفكير النقدي ومجادلة السالب والجامد من الأفكار السهلة واليقينية... رحل الصادق وترك لنا تراثا غنيا وعميقا في الفلسفة والمجادلات الأدبية والسياسية في كتبه المتميزة: نقد الفكر الديني، النقد الذاتي بعد الهزيمة، دفاعا عن المادية والتاريخ ونقد ذهنية التحريم والاستشراق معكوسا، الحب العذري. فوق كل ذلك فقد ظل الصادق النبيل صوتا متفردا ضد الطغيان بكل ألوانه، وكان يتعايش بحرقة مع ما يعانيه شعبه من نظام الاستبداد لذا وقف مع ثورة الحرية والكرامة بكل جوانحه ومن دون اي تحفظات، إذ كان يرى فيها تلك اللحظة التاريخية التي طالما حلم بها، وطالما خفق قلبه لها متمثلا في ذلك الموقف الاخلاقي والنقدي للمثقف الحقيقي. سيبقى الصادق بتراثه بيننا...".
شجاعة الثقافة
أما كيلو فقال لـ"النهار": "صادق العظم هو أحد مؤسسي اللجنة التأسيسية للجان أحياء المجتمع المدني التي كانت تلتقي في منزله، ما بين عامي 2000 و2006، وهو أحد الرموز الثقافية الكبرى في العالم العربي خصوصاً في سوريا وكان استاذاً جامعياً، ودرّس أجيالًا متعاقبة مادة الفلسفة، غير انه لم يعتبر الثقافة ملكاً شخصياً له وانما عمل كل الوقت على نشرها بين الناس وخاض معارك فكرية عميقة ومؤثرة بعد كل حدث تاريخي وبعد حرب عام 1967 كتب كتابه المشهور نقد الفكر الديني، وانخرط ايضا في صفوف المقاومة الفلسطينية فكريا وعملياً، وانحاز كل الوقت، وهو من عائلة ثرية جدا، الى جانب المظلومين وطالبي العدالة، سوريين وغير سوريين، واعتبر أن على الثقافة ان تكون شجاعة وألا تساير العقل السائد وانما ان تتبع منطقها الخاص وان ترى دائما في الحقيقة مقصدها ومطلبها ومآلها".
فيلسوف وثورية في العمق
من جهته يعتبر نيربية أن "العظم رجل قلّ مثيله في الثقافة العربية وهو نادر جداً بما كتبه، ويستحق كلمة الفيلسوف وأكثر، استطاع أن ينجز العديد من المسائل الفكرية التي لها علاقة بالثقافة وخصوصا السياسية، استطاع ان يقدم حلولا وافكارًا مجددة، وتطرق إلى أمرين:
الأول: الطريقة التي كان يربط بها العظم بين الفكر الاسلامي والاصلاح الاسلامي، وما سماه الفكر الانساني العلماني، فآلية الربط بينهما ودخوله على الاصلاح الاسلامي وأهمية العودة إلى تاريخ الاسلام كانت خدمة عظيمة للفكر العربي وتلزمنا خصوصا في هذه الظروف.
الثاني: موقفه من الثورة السورية وتفكيره بها وعطاؤه المباشر للثورة أمر لا نظير له، ويقول انها "ثورة سواء تأسلمت او تعلمنت سأبذل حياتي من أجلها". العظم وصلت به الثورية إلى العمق، وآلية تفكيره الحرّ في المسألة السورية وخصوصا منذ العام 2000 حتى وفاته، وكان من أهم البناة لهذا الجسم الثوري الذي ظهر في السنوات الاخيرة والذي سيخلده لاحقا".
شخص سعى إليه النظام
وبالعودة إلى علاقته بالثورة والنظام، فإن كلماته تجاه الثورة تثبت أنها كانت كل حياة هذا المفكر، أما عن النظام فيقول كيلو: "صادق كان من الاشخاص الذين يسعى اليهم النظام فيما هو لا يسعى إليه، فالنظام كان يريد ان يُحتسب العظم عليه، واوساط عدة من النظام حاولت ان تتواصل معه ودعته إلى لقاءات، لكنه كان رجلاً بارداً في هذا السياق ولم يكن مهتماً او محاولاً ان يغطي مواقفه، كان واضحاً كحد السيف ان النظام معادٍ للشعب وللحرية والفكر".
هل كان ملاحقاً من النظام؟ يجيب: "نوقشت الافكار بهذا الأمر لأن لها علاقة باعتقاله لكن اعتقد انهم ترددوا لأن له سمعة هائلة وعلاقات في سوريا والعالم، وهذه الشهرة كانت تردعهم من اعتقاله". اللقاء الأخير الذي جمع كيلو والعظم كان منذ سنة في باريس، التقيا مع مجموعة من السوريين في مقهى بعد محاضرة لكيلو الذي يقول: "حديثنا دائماً عن الثورة والبحث عن طرق لنخفّف من آلام الناس، وكان العظم واضحاً انه مع الثورة مهما كانت والحل كان بالنسبة له قطعا انهاء النظام وذهاب سوريا الى الحرية والديموقراطية، ومن دون حرية سوريا لن تبقى".
ويحتفظ أيضاً العظم بذكريات له في بيروت، والمنزل الذي كان استأجره أيام وجوده كطالب في الجامعة الأميركية لم يتخلّ عنه، إنها شخصية متجذرة في عالم الثقافة، هي خسارة كبيرة لسوريا في ظل الخسائر اليومية التي يشهدها العالم من دون أي حركة تكبح الظلم السائد.
محمد نمر/annahar.com
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال