شكلت مواقع التواصل الاجتماعي حجر الزاوية في التحركات الشعبية خلال الأعوام الماضية. يبدو الأمر مفهوماً لجهة ما أتاحته التكنولوجيا من إمكانية لتجاوز المعوقات اللوجستية التي كانت تمنع التواصل بوسائط بسيطة خارج متناول السلطات على أنواعها.
كان الجهد النظري يتقدم سابقاً على، وأحيانا يتزامن مع، الخروج إلى الشارع. وكان البتّ بتفصيل التمرحل والتدرج في المطالب لا ينفصل عن التشخيص النظري الذي يوزع هذه المطالب بين الحالم والممكن. الآن يبدو الجهد الذهني الرصين مُغيبّاً عن الفاعليات الشعبية، ومن المتعذّر اقتفاء آثار هذا الجهد خارج المقالات التي يساهم فيها بعض المثقفين، غالباً من باب التعليق فقط، وهي لا تساهم في صناعة المعنى. في المقابل، المعنى هذا يصنعه الناشطون على مواقع التواصل وفي الساحات العامة. يصبح عندها متوقعاً أن تختلط أفكار وخطوات الشارع بالكثير من الحماسة غير المحسوبة وبالقليل من رصانة المنظرين الباردة.
في قضية الأم فاطمة حمزة، وبرغم النجاح المعقول التي حققه المعترضون على سجنها، يبدو الافتقار إلى الجهود النظرية مهولاً، حيث غاب الإصرار على بعض الاجتهادات الفقهية مثلاً والتي تجاوزت بأشواط ما هو كائن في كواليس المحاكم الجعفرية في لبنان. ينتهي الأمر إلى مطالبة الجميع باتخاذ موقف إزاء اصطفاف مانوي حاد: مع أو ضد الدين بكليته.
اللافت أن صوت المثقف يكاد يكون غائباً على ضفتي هذه الثنائية الوهمية. حدث أيضاً أن انتهى الحراك المطلبي سابقاً إلى صفر إنجازات، غالباً لأن مرجعيته الضبابية لم تتمكن من صياغة إجماع على مجموعة من المطالب الممكنة. والمثقف الذي يجب أن تتصارع الضفتان على الاستحواذ عليه هو نسخة ما من علي شريعتي. فذوق الرجل الفكري يستطيع أن يستقطب أصواتاً وازنة من المتدينين الذين يريدون الوقوع على نسخة «ملائمة» لتدينهم، تتيح لهم التمتع بقانون أحوال مدني يرونه عادلاً، وغير المتدينين الذين يجب أن يعلموا أن رميهم أجندتهم «الدوكينزية» كلما اختلف زوجان في حارة سوف يعزلهم أكثر ويرمي بالأكثرية الصامتة في أحضان المتطرفين بوصفهم حماة «الله» الذي يتعرض لاعتداء آثم.
إن الجهد النظري هو الوحيد الكفيل بالإفراج عن القوانين العادلة بدلاً من الاكتفاء بالإفراج عن ضحية واحدة لغياب هذه القوانين. ومن الواضح أن القائمين على الأديان سيتعرضون لصعوبات جمة إذا أصروا على المحافظة عليها بأشكالها الحالية. حينها سيواصلون بناء الأسوار العالية بالتزامن مع إعلان خصومتهم لأجهزة التواصل الاجتماعية. علماً أن مصلحتهم بالتحديد تقتضي المبادرة إلى الاجتهاد في أشكال تقعيد الشريعة في مطلع الألفية الثالثة. بإمكان الجميع أن يرى إلى تجربة الكنيسة المعاصرة التي اتسعت للمثليين مثلاً، لأن رفض هذه التوسعة، المؤلمة للمحافظين بطبيعتها، لم يعد أخلاقياً في محيطها. الاجتهاد في النصوص إذاً ليس ترفاً أو تفضلاً تمارسه أو تمنحه المؤسسة الدينية، بل ضرورة إذا أرادت هذه الأخيرة الاهتداء إلى صيغة دينية قابلة للبقاء. بمعنى الآخر، لا يحتاج الأمر تقريباً إلى حراك مدني ضاغط لتخسر المؤسسات الدينية الكسولة مواقعها. هي تخسر قواعدها الشعبية فقط لأن نشرات الطقس أصبحت أكثر دقة، وتخسر أيضاً لأن العالم ينجرف إلى الماديات انجرافا متسارعا، وأصبح يغترف جرعته الروحية من المفارقات الزمنية المتمثلة بالفنون بدلاً من ملاحقتها في السماء والماوراء.
أيمن عقيل
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال