في
أحد مكاتب الهجرة والجوازات جلستُ مع اثنين من المساعدين بانتظار عودة
شبكة الإنترنت للحصول على بعض البيانات، ثم قررت إدخال الشِّعر بطريقة ما،
كما يفعل صديق لي في بعض الأحيان عندما يقرأ الشِّعر في الأماكن العامة
وينتظر ردّة الفعل التي تكون غالباً غريبة أو غير متوقعة، وفي أسوأ الأحوال
يهرب الطرف الآخر (في تكسي، في باص النقل الداخلي).
بدأتُ التحدث والانتقال من موضوع لآخر إلى أن اكتشف المساعد الأول أنّي أكتب الشِّعر فعدّل من جلسته، ثم طلب أن أقرأ شيئاً ما، ولأني أظن أن القراءة الشخصية تمنح الشخص شعوراً آخر رفضت بحجة الخجل من المراجعين وعرضت عليه أن يقرأ من جهازي فوافق الأخير. خلال قراءته كان يبتسم ويرفع حاجبيه، عندما انتهى نظر إليّ بدهشة وأبدى إعجابه الشديد ليلتفت المساعد الآخر بفضول قائلاً: (هات لشوف) متناولاً هاتفي الجوال من يده؛ وذلك مع المحافظة على وضعية عدم الاهتمام بذلك وراح هو الآخر يقرأ لتتحوّل فجأة نكاتهما السخيفة إلى حوار ثقافي!
بدأت الأسئلة تنهمر حول كيفية اختصار كل هذه المشاعر بسطور قليلة، ومن أين استلهم هذه الأفكار، وأن تقديم نص كهذا ليس بسهل، ليزداد فضول الأول، ويسأل إن كنتُ متزوجة أو مخطوبة! (محاولاً إسقاط مشاعري على فعل الأمومة الحاضر في القصيدة) وعندما شرحتُ له أن الموضوع لا يتعلق بكتابة السيرة الذاتية عقّب مسرعاً أنه أدرك ذلك ولا يقصد الإساءة).
بدأ يحاول عدم التحدث بطريقة فجّة؛ وأنه يعلم أن الشِّعر لا يعني أن نكتب سيرتنا. حينها أدركتُ أن الشِّعر والكتابة هما الحل الوحيد لهذا الألم، إذ كيف استطاعت قصيدة أن تحول عنصرين في مقر الهجرة والجوازات من شخصين يلقيان النكات السخيفة إلى شخصين يحاوران في أفكار إنسانية، وتساءلت: ماذا كان ليحصل لو قرأ كل منهما كتاباً!
إن القراءة اليوم ليست حاجة ملحّة وحسب، بل إنها الطريق الوحيد للتغيير، للتحوّل من حالة الركود الفكري والروحي والعدمي، إلى حالة من التفاعل مع المحيط، فكيف يمكن أن يبدأ تغيير حقيقي إن لم يكن ذا صلة بالفكر الشخصيّ وبالرغبة في معايشة اختلاف روحي جديد، بعيداً عن الروتين الخانق والتكرار المملّ. هذا الروتين الذي يبلغ عمره سنوات طويلة، يبدو اليوم حائطاً يفصل الإنسان عن ذاته وعن محيطه الخارجي، لا سبيل ليخرج الإنسان من هذه الحرب من دون أن يخرج منتصراً من تلك الحرب داخله، تلك هي الهموم الثقيلة التي تمتد منذ مئات السنين، من دون أن يلمس بالشّعر ذاته.
لا بدَّ أن يدخل الشِّعر إلى أكثر الأماكن بساطة وبُعداً عن الكتابة إلى أكثر الأماكن فوضى، فهناك فقط سنعلم لماذا نكتب! هناك سيجد الفرد إنسانيته الغائبة، فحقيقة الكتابة كفعل إنسانيّ ليست تعني مجرد تقديم عمل إنسانيّ حدث أو سيحدث في المجتمع. حقيقةُ الكتابة هي تحريك الإنسان داخل كلّ فرد في المجتمع، تحريكه ليبحث عن أشباهه، عن القراءات التي تعزّز هذا الفعل داخله، فالإنسانية فعل يغيب ويموت ويعود للحياة ويتطوّر ويجاهد ليتخلّص من القاع المعتم، ولن يبدو الأمر يسيراً بادئ الأمر، لكنه ليس بالمستحيل.
في مكتب الهجرة والجوازات شعرتُ للمرة الأولى كيف أن الكتابة تُحدِث فرقاً على الصعيد الإنسانيّ، كيف تمنح الروح الرغبة أكثر في المعرفة، كيف أنّي سأكتب المرة القادمة لسائق التاكسي، لعامل النظافة، للموظف الحكومي، لماسح الأحذية، للفلاحين ولربات المنازل، ليس لأنهم أقل إنسانية، فقط لأنهم بحاجة للتعرف عليها وليكونوا أقرب إليها، سيكون مهماً أن نقدم الأدب والشّعر لأشخاص جدد، أشخاص يقبعون خلف المكاتب، خلف كوّات العمل في بحث سيطول عن الإنسان.
بدأتُ التحدث والانتقال من موضوع لآخر إلى أن اكتشف المساعد الأول أنّي أكتب الشِّعر فعدّل من جلسته، ثم طلب أن أقرأ شيئاً ما، ولأني أظن أن القراءة الشخصية تمنح الشخص شعوراً آخر رفضت بحجة الخجل من المراجعين وعرضت عليه أن يقرأ من جهازي فوافق الأخير. خلال قراءته كان يبتسم ويرفع حاجبيه، عندما انتهى نظر إليّ بدهشة وأبدى إعجابه الشديد ليلتفت المساعد الآخر بفضول قائلاً: (هات لشوف) متناولاً هاتفي الجوال من يده؛ وذلك مع المحافظة على وضعية عدم الاهتمام بذلك وراح هو الآخر يقرأ لتتحوّل فجأة نكاتهما السخيفة إلى حوار ثقافي!
بدأت الأسئلة تنهمر حول كيفية اختصار كل هذه المشاعر بسطور قليلة، ومن أين استلهم هذه الأفكار، وأن تقديم نص كهذا ليس بسهل، ليزداد فضول الأول، ويسأل إن كنتُ متزوجة أو مخطوبة! (محاولاً إسقاط مشاعري على فعل الأمومة الحاضر في القصيدة) وعندما شرحتُ له أن الموضوع لا يتعلق بكتابة السيرة الذاتية عقّب مسرعاً أنه أدرك ذلك ولا يقصد الإساءة).
بدأ يحاول عدم التحدث بطريقة فجّة؛ وأنه يعلم أن الشِّعر لا يعني أن نكتب سيرتنا. حينها أدركتُ أن الشِّعر والكتابة هما الحل الوحيد لهذا الألم، إذ كيف استطاعت قصيدة أن تحول عنصرين في مقر الهجرة والجوازات من شخصين يلقيان النكات السخيفة إلى شخصين يحاوران في أفكار إنسانية، وتساءلت: ماذا كان ليحصل لو قرأ كل منهما كتاباً!
إن القراءة اليوم ليست حاجة ملحّة وحسب، بل إنها الطريق الوحيد للتغيير، للتحوّل من حالة الركود الفكري والروحي والعدمي، إلى حالة من التفاعل مع المحيط، فكيف يمكن أن يبدأ تغيير حقيقي إن لم يكن ذا صلة بالفكر الشخصيّ وبالرغبة في معايشة اختلاف روحي جديد، بعيداً عن الروتين الخانق والتكرار المملّ. هذا الروتين الذي يبلغ عمره سنوات طويلة، يبدو اليوم حائطاً يفصل الإنسان عن ذاته وعن محيطه الخارجي، لا سبيل ليخرج الإنسان من هذه الحرب من دون أن يخرج منتصراً من تلك الحرب داخله، تلك هي الهموم الثقيلة التي تمتد منذ مئات السنين، من دون أن يلمس بالشّعر ذاته.
لا بدَّ أن يدخل الشِّعر إلى أكثر الأماكن بساطة وبُعداً عن الكتابة إلى أكثر الأماكن فوضى، فهناك فقط سنعلم لماذا نكتب! هناك سيجد الفرد إنسانيته الغائبة، فحقيقة الكتابة كفعل إنسانيّ ليست تعني مجرد تقديم عمل إنسانيّ حدث أو سيحدث في المجتمع. حقيقةُ الكتابة هي تحريك الإنسان داخل كلّ فرد في المجتمع، تحريكه ليبحث عن أشباهه، عن القراءات التي تعزّز هذا الفعل داخله، فالإنسانية فعل يغيب ويموت ويعود للحياة ويتطوّر ويجاهد ليتخلّص من القاع المعتم، ولن يبدو الأمر يسيراً بادئ الأمر، لكنه ليس بالمستحيل.
في مكتب الهجرة والجوازات شعرتُ للمرة الأولى كيف أن الكتابة تُحدِث فرقاً على الصعيد الإنسانيّ، كيف تمنح الروح الرغبة أكثر في المعرفة، كيف أنّي سأكتب المرة القادمة لسائق التاكسي، لعامل النظافة، للموظف الحكومي، لماسح الأحذية، للفلاحين ولربات المنازل، ليس لأنهم أقل إنسانية، فقط لأنهم بحاجة للتعرف عليها وليكونوا أقرب إليها، سيكون مهماً أن نقدم الأدب والشّعر لأشخاص جدد، أشخاص يقبعون خلف المكاتب، خلف كوّات العمل في بحث سيطول عن الإنسان.
مناهل السهوي - كاتبة سورية
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال