الكاتبة نجاة الهاشمي تحمل الروح العربية وتميزها وتاريخها مثلما تحمل معها وجع وجروح تلك الروح ما مكنها من بناء جسر بين حضارتين مختلفتين.
هنا في أسبانيا يضيء اسم أسمر جديد اسم لامرأة قمحية الملامح والروح، امرأة تعمّر بالكلمات قامة أدبية عربية عالية وتفرش بالذكاء ظلها الطويل على خارطة أسبانيا كلها، امرأة، كما تقول تتعرف بالكتابة على كهوف هذا العالم وعلى كهوف نفسها أكثر.
هذا العام صنفت رواية “البنت الأجنبية” للكاتبة المغربية نجاة الهاشمي، كأكثر الكتب مبيعا في معرض الكتاب الأخير في مدريد، والذي يعد من أكبر معارض الكتاب في العالم، وقد أقيم في حديقة “الريتيرو” بالغة الجمال والفنية في قلب العاصمة مدريد. ليزيد طول ظل نجاة على ساحات أسبانيا الأدبية.
“البنت الأجنبية” هي الرواية الثالثة لنجاة الهاشمي الحائزة على جائزة “سان خوان بي بي” الفئة “أ” للأدب الكتالوني، المرتبة الأولى ضمن خمسة وخمسين عملا تقدّمت لهذه الجائزة، وقد تم منحها الجائزة والتي قدرها خمسة وثلاثين ألف يورو في احتفال كبير جدا حضرت فيه رئيسة البرلمان الكتالوني نوريا دي جيسبرت شخصيا.
في “البنت الأجنبية” تضيء نجاة على العلاقة الأعمق والأصعب في حياتنا، علاقة الأم بابنتها، وكيف تكون هذه العلاقة في مجتمعاتنا العربية أعقد، إذ لم نتعود بشكل عام الفصل بين الحب والحنان، وبين التملك والوصاية، وإذ أن المرأة التي هي الأم في المجتمع العربي، كائن ضعيف مورست عليه كل أشكال القهر، ومع هذا فهي بدورها تعيد إنتاج هذا القهر بسبب الرعب الذي كبر في شخصيتها.
وهي أيضا تلك البنت التي يتغير كل تفكيرها بتغير المجتمع الذي تعيش فيه، والتي تبني في ذاتها بسبب هذا التغير، شخصية متمردة قادرة على قبول خسارات كثيرة بمقابل ربح ذاتها، وتحاول نجاة معرفة إلى أيّ حد يمكن في النهاية لقوة ومتانة علاقة الأم بابنتها أن تحمي نفسها من الانهيار، من خلال حوارات حقيقية تدور بين الشخصيات، وحوارات أخرى تدور داخل كل شخصية.
بلغة سلسة وبجرأة نادرة، تقدم نجاة في روايتها ما تغيره فينا الأمكنة وما يغيره فينا الآخرون، وكيف أننا كي نبقى حقيقيين ومتوازنين علينا دائما أن نقيم ثورات كثيرة على كل استبداد ولعل الأصعب والأخطر هي تلك الثورات التي نقيمها على أنفسنا ونكون أبطالها في نفس الوقت الذي نكون به ضحاياها الوحيدين.
نجاة الهاشمي اسم ثبّت نفسه على الساحة الأدبية في كتالونيا أولا ثم في أسبانيا كلها وبشكل مفاجئ إذ حصلت روايتها الأولى “أنا أيضا كتالونية ” في العام 2004 المكتوبة باللغة الأسبانية، على جائزة الأدب الكتالوني وهي جائزة محترمة جدا في أسبانيا، وفيها حاولت أن تقول حقيقة الفصام الذي تعيشه فتاة في كتالونيا، والتي تنتمي لأسرة مغربية الأصل، وكيف تبدأ بحرب مزدوجة قاتلة، حرب مع مجتمعها المغربي، الذي لن يسمح أن تخرج من يده، وحرب مع المجتمع الكاتالوني الذي لن يسمح لها أن تكون فيه دون أن يذكرها بكل لحظة بأصلها المغربي، ولقد قدمت نجاة هذا الصراع بشكل رشيق وصادق، وهذا ما جعل الرواية تحظى بإعجاب شديد في كتالونيا نفسها، ما جعل القارئ الكتالوني يقف أمام نفسه، وأمام طريقة رؤيته للمرأة المغربية، إذ عالجت نجاة منذ الرواية الأولى لها مشكلة المهجرين العرب إلى الدول الأجنبية ومشكلة الاندماج وحقيقة وعمق صعوبة هذا الاندماج.
بدراسة منطقية لأسباب تشكل الشخصية المستبدة بشكل عام والعربية بشكل خاص، تواصل الهاشمي كتابتها، إذ أن الرجل في المجتمع العربي يستقبل منذ ولادته بالزغاريد وبالتهليل المبالغ به ويبقى طيلة طفولته يحظى باهتمام ودلال بسبب كونه ولدا ذكرا، وهذا ما ينمّي عنده حالة التملك والأنانية، وهذا ما يعود ويسبّب وجود العنف في نفس الشخصية، وقد عرّت نجاة كل ما أنتجته هذه الأنانية وفضحتها دون مواربة مجسدة أسطورة قتل الأب إذ تقول في روايتها إنها برغم كل ما عانته من عنف وظلم فقد اختارت البقاء حية فقط كي تخبرنا بما عاشت، وكانت تنتقم من الحصار الذي مورس عليها بالتحليق بحرية في سماء اللغة، إذ تسمح لنفسها وللقارئ بمحطات مذهلة الجمال وبأجنحة شفافة تحملهما قليلا عن قسوة أحداث الرواية وهو أيضا ما جعلها تكون رواية مقروءة جدا.
نجاة القادمة من إقليم الناظور
نجاة الهاشمي من مواليد عام 1979 في مدينة بني سيدل في أحد أقاليم المغرب الغربي والذي يسمى إقليم الناظور لكنها في عام 1987 انتقلت مع أسرتها للعيش في منطقة كتالونيا شمال أسبانيا في مدينة تسمى فيك إذ جاء والدها للعمل في أسبانيا كعامل بناء.
دخلت المدارس الأسبانية في كتالونيا، وفيها أتقنت اللغتين الأسبانية والكتالونية وبشكل سريع، أكلمت دراستها في نفس المدينة وبعد حصولها على شهادة البكالوريا أصرّت نجاة أن تدرس في الجامعة في قسم اللغة العربية، إذ درست الفلسفة العربية، كي تبقي على ملامح هويتها قوية ومتماسكة، وهذا ما جعلها تمتلك القدرة على الغوص في ثقافتين بشكل حقيقي، الثقافة العربية بكل ما فيها من غنى وثراء فكري وفلسفي وإبداعي والثقافة الأسبانية بما فيها من حداثة وتوسع وعالمية، وهذا أيضا ما جعلها قادرة على تقديم نفسها بشكل حر وقوي في المجتمع الأسباني، وقادرة على الكتابة بلغته وعلى مخاطبته ولكن بروح عربية.
تحمل نجاة معها، تميز الروح العربية وتاريخها، مثلما تحمل معها وجع وجروح تلك الروح، ولعل هذا هو أهم أسباب نجاح نجاة الهاشمي إذ استطاعت، وبسبب جرأتها بناء جسر بين حضارتين مختلفتين، وقد جعلت من الرواية أعمدة لهذا الجسر، لكنها في الوقت نفسه لم تتنازل أبدا عن تقديم حقيقة آرائها في المجتمعين وبمفهوم الانتماء والهوية، فهي تثير في داخل قارئها زلزالا يهدد كل مسلماته القديمة، ويجعله يحاول رغما عنه هدم بعض منها، وبناء ما هو مختلف، إذ أنها تؤكد مقولتها أن المشكلة لا تكمن أبدا في تصورنا نحن لهويتنا الشخصية، وإنما تكمن في كيفية رؤية الآخرين لنا، إذ أننا نصبح محكومين ومقيدين في هذه الرؤية، والتي غالبا ما تكون تفقيرية ومختزلة ولا تستحضر أبدا العناصر المكونة لشخصياتنا.
البطريرك الأخير
برغم تقديم نجاة لصورة نمطية ومكررة بالرواية العربية، ولكنها تميزت عن غيرها بطريقة المعالجة وبطريقة انتقام الشخصية وقوتها الآتية من وجودها في مجتمع أوروبي، وبرغم إصرار نجاة على تقديم الأحداث والحوارات بكل عفوية فهي لم تتنازل عن لغتها المبدعة والشاعرية التي ظهرت من خلال السرد وبلسان الراوي.
شجعها فوزها بجائزة الأدب الكتالوني على كتابة روايتها الثانية “البطريرك الأخير” في عام 2008 والمفاجئ أيضا كان حصول هذه الرواية على جائزة أخرى للآداب في أسبانيا هي جائزة “أوليس” ثم جائزة “رامون ليون” المرموقة جدا، وقد أثارت الرواية الكثير من الجدل على الصعيد النقدي إذ أن نجاة الهاشمي في روايتها هذه أيضا تقدم إشكالية سلطة الأب في المجتمع المغربي كنموذج لأحد أشكال الاستبداد، وتقدمها أيضا بطريقة صادمة ومؤلمة، ومن دون أيّ هروب من تفاصيل هي في الحقيقة تشكل عمق هذا الاستبداد.
الكثير من النقاد الأسبان، يعتبرون أن نجاة الهاشمي أضافت غنى للأدب الأسباني نفسه، حين فتحت له نوافذ لم يكن ليحظى بها من كاتب أسباني الأصل، وأنها بصدق وجرأة وفنية كتاباتها وبعمق ثقافتها العربية والأسبانية، قد قدمت نموذجا جيدا غير مسبوق في تاريخ الأدب الأسباني.
أي فرح ينهض في داخلنا حين نسمع أن مبدعا عربيا استطاع أن يحقق حضورا أو فوزا حقيقيا على مستوى عالمي أو أوروبي، وكيف يشعر هذا المبدع الذي يعيش فينا بالانتصار وبالحزن العميق بنفس اللحظة، أيّ كلمات تستطيع أن تصف شعورا بالفرح والانتصار ومعه في داخل ثناياه شعور بالحزن والقهر.
هو فرح قادم من منابع هويتنا ومن ملامحنا، إذ مجرد لفظ “كاتبة عربية تحصد روايتها أكثر المبيعات”، يعني أن شيئا عميقا جدا في دواخلنا يبدأ بالخروج من كهوف أرواحنا، وأن ضوءا حقيقيا يستطيع التسلل إليها، هو ضوء حقيقي مثل لون عيوننا، ومثل سمرتنا الطاعنة في سمرتها، وهو ضوء أكثر من مجرد لغة شكلت صوت ذاكرتنا، وصوت أحلامنا، إنه لغة نستطيع بها أن نقرأ أنفسنا دون أخطاء الترجمة.
أما الحزن الفادح الذي يلتهمنا، فهو أيضا وليد كهوف أرواحنا، هو هذه الخفافيش التي تداهمنا حين نفتح لكهوفنا طاقة صغيرة كي يمر بنا الضوء، الخفافيش التي كنا نربيها خلسة عنا في ظلمات حرصنا كثيرا على إقفالها فينا وعلينا معا.
خفافيش بقيت دهورا تقتات على عجزنا، وكانت بلادنا بكل ما فيها، بلغتنا هذه نفسها التي تشعل هذا الضوء، بنفس دعائم هويتنا، بكل هذا كانت بلادنا تطعمنا للخفافيش، فلا الخفافيش تشبع ولا البلاد ترحم.
لماذا وبلغة أخرى و في بلد آخر، تكرّم رواياتنا وتأخذ حقها كاملا دون النفي والترحيل والتهميش والإقصاء، لماذا علينا أن نعيش ببلاد غير بلادنا، وأن نتحمل غربة اللغة وغربة الحياة وغربة الماضي، ولعل أقسى غربة هي غربة الماضي، لماذا علينا أن نتآلف مع كل أشكال الغربة، كي نحقق ما نستحق، وما الذنب الذي اقترفناه كي نسجن مع كلماتنا وأصابعنا حين نكتب ما لا يرضي الاستبداد، وحتى حين نخرج من هذه السجون، فإننا نقدم أدبا سجينا، وبرغم كل جرأته هو أدب مذعور، وقد كنا نقتل ونلاحق إذا كتبنا عن تابوهات تعيش مجتمعاتنا بين قضبانها، وحتى وإن كنا جريئين، فقد كنا أيضا نقدم أدبا يجاور المحرم أكثر ما هو أدب يواجهه، ويدخل في عمق إشكالياته وأسبابها.
تنتصر نجاة الهاشمي ومعها ينتصر المبدع الساكن فينا، إذ ينتصر بعض الضوء الذي استطاع الهروب لكهوفنا، ولكن بلادنا التي قتلت المبدع فينا تحت التعذيب، والتي جعلته ينزح عنّا ويموت في البحر موتا مالحا، بلادنا هذه تطلق كل سهام العالم دفعة واحدة نحو القلوب.
ميسون شقير
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال