ليس في العالم العربي الإسلامي فائض إنسانية، ولا تسأل عن الحرية، وإن كان لديه فائض مادي يغني ضحايا الاستبداد وحروب الطوائف عن هذه المصائر، وتلك هي الفريضة الغائبة.
الصورة التي نشرتها الشرطة الإيطالية يوم 7 أغسطس 2015 خلت من الإثارة. عبرت بسلام، فأراحت ضمائر ما كان لها أن تستريح. في النصف الأعلى من الكادر زرقة السماء شفيفة، تميل قليلا إلى البياض، ثم يقسم خيط أكثر زرقة حدود تماس السماء في ارتطامها بالبحر، تقريبا في منتصف الكادر الذي احتل نصفه الأسفل موج راسخ، صامت وساكن في جلال الحداد على ما انتزعه من أرواح. لا يعكر صفو الصورة طائر يحلق، أو سفينة عابرة، أو قارب إنقاذ، فقط تبرز رؤوس، نبتت من الماء بالقرب من شاطئ تجاهلته الصورة، بعض هذه الرؤوس قفز بقوة عشق الحياة فظهر العنق، وأحيانا طوق نجاة أصفر يطفو فوقه رأس لا يزيد على حجم فقاعة خلفتها موجة.
الصورة صادمة، خرساء لا تخبرنا هل استراحت الأرواح بالشهادة وبقيت الأجساد تنتظر موجا يدفعها إلى شاطئ، أم أن الضحايا الذين ضاقت بهم سوريا وبلاد العرب المسلمين الغنية تنازلوا عن أشواقهم في بلوغ شاطئ أكثر عدلا وآدمية، فاكتفوا بتأجيل الموت غرقا راضين بأي حياة؟
لم تجذب الصورة انتباه كثيرين؛ فلا ملامح لضحية ستطارد سفاحا أو متواطئا، أو تلوم مقصرا بالصمت. ليست لهؤلاء الضحايا أسماء تدل عليهم، تنقلهم من قوائم أرقام محايدة إلى دائرة التعيين، تثبت أن لهم أحبة ينتظرون اتصالا من الشاطئ الآخر. صورة تفضح النفاق العام، وتخدش التديّن الشكلي، وتوجب أن يخرج من هذا العالم العربي الإسلامي الثري “رجل رشيد” بفتوى تتلخص في عنوان “هذا العام مش نافع حج”، وما بين الأقواس عنوان قصيدة كتبها الشاعر محمد كشيك بعد حصار جنين في أبريل 2002، وقد انتهى بقتل 58 فلسطينيا نجهل أسماءهم ولحقوا بقوائم ضحايا نجا منها محمد الدرة؛ إذ واجهت صورته العالم المتواطئ بأن له اسما، فصار قتله عنوانا على جريمة.
ليس في العالم العربي الإسلامي فائض إنسانية ولا تسأل عن الحرية، وإن كان لديه فائض مادي يغني ضحايا الاستبداد وحروب الطوائف عن هذه المصائر، فتلك هي الفريضة الغائبة، بل الأكثر وجوبا من فريضة الحج، فلا يرضي الله، الغني عن العالمين، مليونان من البشر يطوفون ببيته وهناك في البحر ضحية واحدة تصارع الموج. ولكن الموجة الحالية من الإسلامجية تفضل قبض أرواح المسلمين بحجة ارتكاب كبيرة أو تقصير في أداء الفرائض، بعد أن كان السلف الإسلامجي غير الصالح يرى أن قتل الحاكم وحده “الفريضة الغائبة” كما ذهب محمد عبدالسلام فرج، في كتاب صار دستورا لتنظيم الجهاد، وربما ينافس “معالم في الطريق” لسيد قطب، ولا يدانيه في الشهرة ذلك الكتاب الأخضر الذي لم يكتبه القذافي، ولكنه صدر في الحجاز بغلاف أخضر وعنوانه “الجهاد في سبيل الله”، ويحمل أسماء أبو الأعلى المودودي، حسن البنا، سيد قطب.
في عام 1981 كنت في الخامسة عشرة، ووقع في يدي كتيب، لمفتي مصر الشيخ جاد الحق علي جاد يفند فيه كتاب “الفريضة الغائبة”. قرأته باستهانة، وكنت أتسلح بيقين وجرأة على أن أتهم مؤلفه وأي شيخ، بأنه من “فقهاء السلطان”. لم يكن في مصر سلطان، ولكننا نردد مقولة زرعها في قلوبنا من يكبروننا سنا ونسعى إلى مجاراتهم في التشدد، لنثبت جدارتنا بالتكفير.
كنا نخجل أننا أصغر سنا من مشاركة “المجاهدين” الأفغان، ونحسد أنور السادات وهو يزايد علينا بالتوجه إليهم عبر صحيفة “الأهرام”: “سنقف معكم بكل ما في الإسلام من قوة”، تنفيذا لقوله “أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة”. وفي وقت لاحق سنسعى خلف يوسف القرضاوي وغيره من “الدعاة” من جامعة القاهرة إلى نقابة الأطباء، ونناشد حسني مبارك فتح سفارة للمجاهدين الأفغان. (كانت مجالس النقابات ذات أغلبية إخوانية، ثم انتهت سنوات البراءة بحكمهم مصر فخسروا الانتخابات الطلابية والنقابية بالكامل، وهذه قضية أخرى).
في ذلك الوقت سمعنا عن “زكاة الركاز”، ولم نتوقف كثيرا لانشغالنا بما هو “خير وأبقى”، بما يسمونه الجهاد؛ مخافة الوقوع تحت طائلة حديث “من لم يغز، أو تحدثه نفسه بالغزو، مات ميتة جاهلية أو على شعبة من نفاق”. ولم ننشغل بزكاة الركاز، ولا عني بها السلفيون والإخوان ممن عاشوا في الخليج، وعليهم أن يحاربوا بسيف السلطان، وألا يستهدفوه بفتوى. وبتاريخ مايو 1997 صدرت الفتوى الرسمية لدار الإفتاء المصرية، بأن ما يحصل عليه الإنسان بدون بذل مال أو جهد هو الركاز، ويجب فيه الزكاة بمقدار الخمس. قال الشافعي ومالك: لا زكاة إلا في الذهب والفضة فقط.
وقال أحمد بن حنبل: تجب الزكاة في كل ما يستخرج من الأرض حتى القار والنفط والكبريت… والقدر الواجب في المعدن عند مالك والشافعي وأحمد هو ربع العشر عند العثور عليه، دون اشتراط لحولان الحول. أما عند أبي حنيفة فهو الخمس… وإذا كانت الدولة هي التي تملك البترول، فهو مالها الذي هو مال الشعب ينفق في مصالحه. والمملوك للدولة داخل ضمن الميزانية العامة كمورد من الموارد التي تصب في بيت المال أو خزانة الدولة يترك لولي الأمر التصرف فيه.
وقال أحمد بن حنبل: تجب الزكاة في كل ما يستخرج من الأرض حتى القار والنفط والكبريت… والقدر الواجب في المعدن عند مالك والشافعي وأحمد هو ربع العشر عند العثور عليه، دون اشتراط لحولان الحول. أما عند أبي حنيفة فهو الخمس… وإذا كانت الدولة هي التي تملك البترول، فهو مالها الذي هو مال الشعب ينفق في مصالحه. والمملوك للدولة داخل ضمن الميزانية العامة كمورد من الموارد التي تصب في بيت المال أو خزانة الدولة يترك لولي الأمر التصرف فيه.
لم تتحدث الفتوى عن الفائض على احتياجات دول صغيرة، هل تبدده بسفه غير مسؤول في أمور غير مفيدة لمواطنيها حين يموت الملايين جوعا، وبعضهم عرب مسلمون تغنيهم زكاة الركاز “الفريضة الغائبة”؟
سؤال لم يجب عنه محمد الغزالي في إباحته لآحاد الناس قتل من يفتي شيخ مهووس بردته (فرج فودة نموذجا) ولا “مفتي الناتو” القرضاوي في فتاواه الإخوانية، ولا إنكاره المعلوم بالضرورة حين سأله مذيع الجزيرة عن قاعدة أميركية في قطر، فأجاب “أنا أنكر وجود القاعدة في قطر”، وليس مضطرا للكذب أو الإجابة عما لا يحيط به علما؛ فلا يشغل منصبا سياسيا. وبعد زوال حكم الإخوان تذكر “الفريضة الغائبة”، فدعا مسلمي العالم إلى “الجهاد” في مصر. لم يجرؤ على إطلاق هذه الدعوى لتحرير فلسطين، فماذا يقول لله رجل كتب يوما “مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام”؟
سعد القرش/روائي مصري
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال