القلق على المصير العربى فى محله تماما، لكننا نخطئ كثيرا إذا حصرنا التحديات فى النفوذ الإيرانى ومخاطر الإرهاب، وتجاهلنا دور إسرائيل فى مخطط التفتيت الذى تنفذه منذ نصف قرن.
شابة ترفع علامة النصر أمام منزل أنطوان لحد في مرجعيون، بعد انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان
1- هذا القلق أصبح يشكل قاسما مشتركا بين أغلب تعليقات وتحليلات الكتاب العرب فى الآونة الأخيرة. من حديث عن الحدود التى يعاد رسمها بالدم، إلى تحذير من ان المستقبل فى المنطقة يراد له ان يصنع على أيدى غير العرب، مرورا بمحاولة رصد الأسباب الكامنة وراء تعدد الهزائم العربية ودور الدولة والقبيلة فى ذلك. وليس ذلك مستغربا، لأن مختلف الشواهد تدل على ان ثمة خرائط جديدة ترسم للمنطقة فى ضوء الانهيارات التى حدثت لبعض الأنظمة والتصدعات التى عانت منها أنظمة أخرى، والتوترات التى أطلت برأسها فى فضاءات أنظمة ثالثة. وحين تم الاتفاق بين واشنطن ومعها الدول الكبرى وبين طهران فإن الجميع أدركوا أن أوان الدخول فى حقبة جديدة قد حل، وان الحديث عن المستقبل ومخاوفه لم يعد ثرثرة مثقفين أو توجسات سياسيين، ولكنه صار ضرورة ينبغى أن تؤخذ على محمل الجد، لأن قطار التغيير انطلق وبات من العسير وقف اندفاعه.
استوقفتنى فى هذا الصدد مقالة لوزير خارجية مصر الأسبق السفير نبيل فهمى نشرتها جريدة الأهرام فى ٢٢/٧ تحت عنوان «الشرق الأوسط الجديد والاتفاق النووى الإيرانى والعرب». إذ استهلها بالإشارة إلى اتصال أجراه معه فى عام ٢٠٠٤ (حين كان سفيرا لمصر فى واشنطن) مستشار الأمن القومى الأمريكى، واقترح عليه ان تشارك مصر فى اجتماع قمة حول انشاء شرق أوسط جديد يشمل الدول العربية ويمتد حتى باكستان وأفغانستان (وهو ما اعتذر عنه آنذاك) وفى ربيع عام ٢٠١٥ حدثه مسئول إيرانى مقرب من أصحاب القرار عن انهم فى طهران لهم نظرة أخرى للشرق الأوسط الجديد مختلفة عما يرونه فى مصر، فليس صحيحا فى رأيهم ان المنطقة جوهرها عربى، لأن مرجعية المواطن العادى لم تعد القومية العربية، فضلا عن ان العالم العربى منقسم على نفسه والثقل السياسى والأمنى والاقتصادى فيه ليس بين أيدٍ عربية. وحين وضع الأمران جنبا إلى جنب خلص إلى ان التفكيرين الأمريكى والإيرانى ينطلقان من رؤية لمستقبل المنطقة بأيدٍ غير عربية. ثم تساءل عما إذا كانت تلك مؤامرة كبرى أم انه مجرد توافق مصالح بين أيدٍ غير عربية؟ ــ وهو يجيب على السؤال فإنه طرح أفكارا عدة محورها كيف يستعيد العالم العربى زمام المبادرة، كى يصبح فاعلا وليس مفعولا به.
2- ملاحظتى الأساسية على مقالة السفير نبيل فهمى انها وقفت عند استعراض الموقفين الأمريكى والإيرانى لكنها لم تشر إلى التفكير الإسرائيلى الأخطر فى الموضوع، ذلك ان الأمريكيين والإيرانيين إذا كانوا قد طرحوا أفكارا عن بُعد وكانت لهم تطلعات تتعلق بنفوذ كل منهما فإن مشروع الإسرائيليين الموجودين فى قلب المنطقة تم اختبار أفكاره، ونفذ بعضها على أرض الواقع، والبعض الآخر جارٍ تنفيذه فى صمت وبعيدا عن الأعين.
من وجهة النظر الإسرائيلية فالمنطقة العربية لا تشكل وحدة ثقافية وحضارية واحدة، كما يعتقد العرب. وإنما هى خليط متنوع من الثقافات والتعدد اللغوى والدينى والإثنى، وقد اعتادت إسرائيل تصوير المنطقة على أنها فسيفساء تضم بين ظهرانيها شبكة معقدة من أشكال التعدد، ما بين عرب وفرس وأتراك وأرمن وإسرائيليين وأكراد وبهائيين ودروز ويهود وبروتستانت وكاثوليك وأرثوذكس وعلويين وصابئة وشيعة وسنة وموارنة وشركس وآشوريين... إلخ. بالتالى فإن المنطقة ما هى إلا مجموعة من الأقليات التى لا يوجد تاريخ يجمعها. ومن ثم يصبح التاريخ الحقيقى هو تاريخ كل أقلية على حدة. والغاية من ذلك التحليل تتمثل فى تحقيق هدفين، الأول رفض مفهوم القومية العربية ومقاومة فكرة الوحدة العربية. ذلك أن التصور الإسرائيلى يعتبر ان القومية العربية فكرة يحيط بها الغموض، ان لم تكن غير ذات موضوع على الاطلاق. وقد برز فى هذا المجال اتجاهان، أحدهما يتحدث عن «خرافة» الوحدة العربية. وأصحاب هذا الرأى يتحدثون عن أمة واحدة لكنهم يتصرفون كدول متنافرة. ورغم ان ما يجمع بين هذه البلاد هو اللغة والدين، لكن ذلك لا يعنى بالضرورة انهم أمة واحدة ــ فثمة شعوب تتحدث اللغة الإنجليزية أو الإسبانية دون ان يجعل ذلك منها أمة واحدة. الاتجاه الثانى يعترف بوجود القومية العربية بمعنى وجود مجموعة روابط ثقافية وعاطفية وتاريخية بين العرب لكن أصحاب ذلك الاتجاه يفصلون بين الاعتراف بتلك الروابط وبين السعى لتحقيق الوحدة العربية التى يعتبرون انها مستحيلة.
الهدف الثانى من الترويج لفكرة تعدد الأقليات والهويات فى العالم العربى هو تبرير شرعية الوجود الإسرائيلى. ذلك ان المنطقة وفق ذلك التصور تضم خليطا من القوميات والشعوب واللغات. وتصور قيام وحدة بينها هو ضرب من الوهم والخيال. والنتيجة المنطقية المترتبة على ذلك تعنى أن تكون لكل قومية فى المنطقة كيانها الخاص، وبذلك تكتسب إسرائيل شرعيتها باعتبارها إحدى الدول القومية التى تعيش على أرضها.
هذا التوجه فى التفكير الإسرائيلى دفعها إلى تبنى استراتيجية تشجيع مناطق الأقليات فى المنطقة، وطرحها بين حين وآخر لفكرة إقامة دويلات درزية أو مارونية على حدود إسرائيل لتكون بمثابة مناطق أمن تكسب إسرائيل الاطمئنان وتشكل حاجزا ماديا ومعنويا يفصل بينها وبين الدول العربية. وهو ما من شأنه ان يشجع الأقليات الأخرى على ان تسير على ذلك الدرب، ويحفز الأكراد فى العراق والأفريكان فى جنوب السودان وموريتانيا على الاستقلال.
كتابات ابا ابيان السياسى الصهيونى ووزير خارجية إسرائيل التى نشرت تحت عنوان «صوت إسرائيل» تعد أفضل تعبير عن الفكرة، ذلك انه اعترض على الافتراض القائل بأن الشرق الأوسط يمثل وحدة ثقافية، وان على إسرائيل ان تتكامل مع تلك الوحدة. وذكر ان العرب عاشوا دائما فى فرقة عن بعضهم، وان فترات الوحدة القسرية كانت تتم بقوة السلاح. من ثم فإن التجزئة السياسية لم يحدثها الاستعمار. وان الروابط الثقافية والذات التى جمع البلاد العربية لا يمكن ان تضع الأساس للوحدة السياسية والتنظيمية.
الفقرات السابقة كلها ليست لى، ولكنها اقتباس مطول منقول حرفيا عن كتاب صادر فى تل أبيب عام ٢٠٠٣ عن مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وافريقيا. وكتاب العميد المتقاعد موشى فرجى، وعنوانه هو «إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان».
3- هذه الأفكار تم اختبارها فى ثلاث تجارب فيما هو معلن حتى الآن على الأقل، هى:
* أقامت إسرائيل علاقات وثيقة مع قيادات الموارنة فى لبنان، مستثمرة فى ذلك علاقات التوتر التاريخية بينهم وبين المسلمين السنة. وثمة دراسات متعددة أرخت لتلك العلاقة الإسرائيلية واللبنانية. منها دراسات الأستاذ صقر أبوفخر عن الدور الذى قام به الاكليروس المارونى فى التواصل مع الإسرائيليين، وكتاب كريستين شولز عن الدبلوماسية الإسرائيلية السرية فى لبنان. وفى كتاب الان مينارج عن أسرار حرب لبنان نص رسالة بعث بها إلى مناحيم بيجين رئيس وزراء إسرائيل كميل شمعون رئيس حزب الوطنيين الأحرار شكا فيها من ان الفرنسيين حين أقاموا لبنان الكبير ضموا إلى الموارنة الأراضى المأهولة بالمسلمين، «وكان هؤلاء سببا فى جميع العلل والشرور». ودعاة إلى تجنب الإسرائيليين بأراضٍ مأهولة بالمسلمين حتى لا يعانون مما عانت منه لبنان.
الشاهد ان تواصل الإسرائيليين مع بعض شرائح الموارنة دفع الأخيرين إلى إقامة دولة لبنان الحر وحكومتها فى عام ١٩٧٩. وشكل هؤلاء ما سمى بجيش لبنان الجنوبى، الذى قاده سعد حداد ومن بعده انطوان لحد. وكان للأحزاب المارونية الثلاثة التى شكلت الجبهة اللبنانية دورها فى الترحيب بالاجتياح الإسرائيلى فى لبنان عام ١٩٨٢. إلا أن مشروع دولة الموارنة فشل وانهار بعد انسحاب الإسرائيليين من لبنان.
* التجربة الإسرائيلية الثانية كانت مع المتمردين فى جنوب السودان وقد فصل كتاب العميد موشيه فرجى فى تتبع تلك العلاقة التى بدأ الإسرائيليون فى نسجها فى عام ١٩٥٨، واستهدفت دعم التمرد الجنوبى وإضعاف السودان للضغط على مصر واختزان القارة الأفريقية، وشمل ذلك الدعم كل المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية، حيث وفرت إسرائيل الخبرات والسلاح والأموال وكل ما احتاجته حركة التمرد لكل متحدى حكومة الخرطوم وتثبت أقدامها على الأرض، الأمر الذى انتهى بانفصال الجنوب وإعلان استقلاله فى عام ٢٠١١.
* التجربة الثالثة مع الأكراد فى شمال العراق. ذلك ان زعماء الأكراد فى نضالهم ضد نظام صدام حسين وضد شاه إيران قبل الثورة، كانوا يتلمسون الدعم من أى مصدر، الأمر الذى سارعت إسرائيل إلى تلبيته فقدموا لأكراد العراق الكثير من المساعدات التى لم تعلن تفاصيلها، لكنها انتهت بأن أصبح لإسرائيل حضور استخبارتى قوى فى شمال العراق. وهذا الموقع له أهميته الاستراتيجية المهمة لأنه اتاح للإسرائيليين امكانية الاقتراب مما يحدث فى العراق وسوريا وإيران وتركيا. ولم يعد سرا ان كردستان قطعت شوطا بعيدا فى سعيها للاستقلال، الذى أصبح الآن مطلبا معلنا من جانب المثقفين والسياسيين والأكراد. وبالتالى فلم يعد السؤال المطروح الآن هو هل يعلنون استقلالهم أم لا، ولكنه متى يتم ذلك.
4- نبالغ كثيرا إذا قلنا ان إسرائيل فعلت من جانبها كل ذلك، لأن الأصح والأصوب انها ساهمت فى صنعة مستفيدة من ظروف داخلية مواتية فى كل قطر. وهو ما يدعونا إلى القول بأن عملية تفتيت العالم العربى والإفادة من تنوع كياناته وتعدد الأقليات فيه تنطلق من استراتيجية إسرائيلية واضحة المعالم منذ خمسينيات القرن الماضى. وللأسف فإن الدور الإسرائىلى فى الخرائط الجديدة التى ترسم للمنطقة لم يأخذ حقه من الانتباه والدراسة. ذلك اننا نرى تركيزا شديدا على طموحات الإيرانيين ومخططات جماعة داعش الإرهابية، كما نلمس تجاهلا وسكوتا على مساعى الإسرائيليين الذين أصبحوا يعتبرون أنفسهم جزءا من معسكر الحرب ضد الإرهاب (قدموا إلى الأردن ١٦ طائرة هليكوبتر لهذا الغرض) فى حين يمارسون فى فلسطين كل ما يمكن تخيله من مظاهر الإرهاب والقمع.
لست أدعو إلى تجاهل الدور الإيرانى ولا الكف عن مقاومة الإرهابيين، لكننى أتنمى الانتباه إلى ثلاثة أمور.
الأول توفير رؤية عربية واضحة للتحديات التى توجه الأمة من حيث أولوياتها وطبيعتها.
الثانى ان تظل على وعى كاف بالمخططات الإسرائيلية التى تلح ما برحت تسعى إلى تفكيك العالم العربى وتفتيته.
أما الأمر الثالث والأهم فهو ان مخططات التفتيت التى ترسم تراهن على الشروخ والتشققات الحاصلة فى كل قطر عربى، ولذلك فإن الوعى بتلك المخططات ينبغى أن يستصحب اهتماما بحصانات الداخل، ذلك ان مخططات التفتيت لا يتحقق لها النجاح إلا فى حال هشاشة المجتمعات وقابليتها للتفتيت.
فهمي هويدي
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال