«الموسيقى هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسبٍ منتظمة؛ يوقع على كل صوتٍ منها توقيعاً عند قطعة، فيكون نغمه». يهدينا هذا التعريف للموسيقى عند (ابن خلدون) إلى المشكلة البنيوية في عدم وجود موسيقى عربية مجرّدة؛ وهذا جلي من تعريف الموسيقى كـ(تلحين للأشعار).
مفارقة يوجزها المايسترو نزيه أسعد مدير فرقة الأوركسترا الشرقية السورية فيقول: «مشكلة عدم وجود موسيقى عربية متجذرة منذ العصر الجاهلي، فلقد كان للشعر حضورٌ طاغٍ على الموسيقى؛ وهذا ما سنجد له أثراً في المعلّقات وعند فحول الشعراء، وإن لم تتخلص الموسيقى العربية من سطوة الشعر عليها وقوة المشافهة؛ فلن ننجح في إبداع موسيقى عربية حية ومجردة، فالموسيقيون العرب يتعاملون مع الموسيقى كمقدمة لموشّح أو لأغنية أو دور أو طقطوقة». وهذا يعود برأي (الأسعد) إلى «مجالس الخلفاء في العصرين الأموي والعباسي؛ حيث كان الغناء هو الترجمة الفعلية للشعر، فالغناء لا الموسيقى هو رفيق مجالس السمر والخلوة مع الجواري والمغنيات والمطربين من مثل طويس وعزة الميلاء وشارية ودنانير البرمكية وحبابة وبصبص ولذة العيش وسواهم».
إن اعتماد الموسيقى العربية على الأغنية وحدها هو أوضح مظاهر تأخرها؛ إذ إن الأغنية بطبيعتها محدودة المجال؛ تكفي الكلمات فيها في كثير من الأحيان للتأثير على المستمعين - كما يقول الباحث الموسيقي الراحل فؤاد زكريا - (1927 - 2010) في كتابه (التعبير الموسيقي) فالموسيقى الغربية استقلت عن الشعر والغناء منذ زمن بعيد، وتمكنت منذ زمن بعيد أن تؤدي وظيفتها التعبيرية كاملة؛ من دون الحاجة إلى معونة فن آخر؛ وأصبح الشعر أو الرقص لا يضاف إلى الموسيقى من أجل ملء فراغٍ فيها، بل من أجل إيجاد جديد من الفن الموسيقي الشعري أو الموسيقي الراقص فحسب؛ أما الموسيقى العربية فتسير في تيار لحني متصل؛ يتصف بالسطحية؛ ولأن التوافق الصوتي هو مصدر عمق الموسيقى الغربية؛ وبفضله تتخذ الموسيقى عند المستمع ألواناً متجددة على الدوام؛ ويستطيع المرء أن يكتشف فيها آفاقاً جديدة كلما عاد إليها؛ بعكس الموسيقى العربية التي لا تؤدي وظيفتها إلا في نطاق الأغنية الضيق؛ كونها تلجأ في ألحانها إلى أساليب تفقد العمل الفني جدته وطرافته المستمرة.
هي مشكلة تاريخية إذاً فالشعر هو الناظم للحن؛ بعيداً عن أي مؤلف له تفسيره الموسيقي المجرد؛ يعقب المايسترو (أسعد) متابعاً: «كان من الممكن أن نعالج هذه الإشكالية الصوتية في مؤتمراتنا الموسيقية، لكن مجمل هذه المؤتمرات العربية كان مؤتمرات غنائية لا مؤتمرات آلية موسيقية محضة، كان النقاش دائماً يدور على قوالب (البشرف) وسواها من قوالب ذات أصول فارسية - عربية؛ أما في عصرنا فقد اشتغل كل من سيد درويش في مصر وأبو خليل القباني في دمشق على الأوبريت والمسرحية الغنائية، فكانت الموسيقى لديهم عبارة عن فواصل بين أغنية وأغنية؛ أو بين موشّح وآخر؛ ولم يكن هناك موسيقى بمعناها المستقل عن الغناء أو الأنشودة».
الباحث والموسيقي السوري نبيل اللو يلخص إشكالية الموسيقى العربية في مقال له بعنوان: (هل يعرف أهل السماع ثقافة الاستماع؟) – (مجلة الحياة الموسيقية - عدد - 65 - وزارة الثقافة السورية) فيقول: «يحب الغرب صمتاً؛ ويحب الشرق تهليلاً؛ وينسحب هذا على كل شيء؛ خصوصاً على الموسيقى؛ ففي الوقت الذي يصغي الأوروبي للموسيقى إصغاءً كاملاً؛ يهلل العربي المنتشي طرباً لكل وقفة تقسيم ونهاية مقطع غناء، مما اصطلح على تسميتها بالقفلات الحرّاقة التي تستدعي: (آه، يا سلام، كمان، من الأول، أَعد، طيّب، عظَمة على عظَمة، اجرحني.) عبارات استحسان لا تنتهي تصدر عن الحضور كلما أبدع موسيقيٌّ أو مغنٍ، وإذا كان الأمر ينطبق على ما اصطلح على تسميته بالطرب الغريزي والطرب العقلي والنفسي؛ فإن ما يحرك الجمهور العربي عموماً هو الطرب الغريزي الملتصق بالقفلات الحرّاقة؛ وليس بالطرب العقلي الذي يقفل قفلات يستحسنها العازفون في سرهم».
الموسيقى الآلية المجردة غير المصاحبة للغناء تكاد تكون معدومة في تراثنا العربي، يعقب المايسترو (نزيه أسعد) مجدداً على كلام (اللو)؛ لكن الروائي (خليل صويلح) يرد على كلام كل من (أسعد) و(اللو) فيقول: «لا توجد سلالة موسيقية عذراء، وتالياً لا موسيقى عربية خالصة، ثم ما حاجتنا لمثل هذه الهوية المغلقة لموسيقانا؟ كيف أعزل أول نواح ناي في حضارة بلاد الرافدين عن أنين ربابة لعازف جوّال في صحراء بادية الشام، أو في قافلة قادمة من أرض فارس. هناك خلطة كرونولوجية من السلالم الموسيقية، تبعاً لتمازج الحضارات المتعاقبة على المنطقة، وهذا ما نجده في موسيقى الرحابنة تارةً، وموسيقى محمد عبد الوهاب طوراً، من دون أن ننسى هواء الأندلس، وعود زرياب المطوّر. أظن أن حراسة أسوار الموسيقى من هبوب ريح الآخر، فكرة مستبدة في المقام الأول ينبغي وأدها، ذلك أن الموسيقى لا تعترف بالتضاريس ودمغة جواز السفر».
رأي يؤيده فيه الناقد الموسيقي (يوسف الجادر) الذي قال: «هي إشكالية من حيث المنهج والتاريخ للموسيقى العربية؛ لأن هذا يعيدنا إلى تفاصيل تأسيس الموسيقى العربية؛ والحرص الشديد من القائمين والمبدعين على الكم الهائل من النتاج الموسيقي العربي منذ أوائل القرن الماضي؛ وحتى انطلاق (مؤتمر الموسيقى الأول) عام 1932 في القاهرة».
هذا المؤتمر، وعلى أهميته، يتابع الناقد (يوسف الجادر) فيقول: «لا شكّ أن هذا المؤتمر شكّل انعطافة في تاريخ الموسيقى العربية؛ وساهم في الوقت ذاته بقولبة الموسيقى العربية في إطار محدد عبر تأسيس السلم الموسيقي العربي، وتحديد ربع الصوت ليعطي للموسيقى العربية هويتها وتمايزها عن الموسيقى الشرقية، لكن ذلك أفقد الكثير من سحر الموسيقى الشرقية التي كانت تعتمد على (الكومة) في أدائها، فكتب الكثير من المؤلفين (كسيد درويش) و(عبدو الحمولي) وغيرهما عدداً من الأدوار والقوالب الموسيقية التي تدخل في إطار الموسيقى العربية؛ لكنها حافظت على (الكومة) إضافة إلى ربع الصوت».
من جهة أخرى يرى (الجادر): «ان ما يزيد من إشكالية السؤال حول وجود الموسيقى العربية؛ أنها تندرج ضمن الموسيقى الغنائية وهي من ناحية الكم تكاد تكون أكثر بكثير من الموسيقى الخالصة (كالقوالب، البشارف، اللونغات..) وغيرها من المقطوعات الموسيقية، وهذه كتبت للآلات التي كان عازفوها بارعين في التكنيك والأداء مثل منير بشير وجميل بشير ومحمد عبد الكريم؛ إلا أن تجارب عباقرة الموسيقى العربية ظلت تحوم في فلك الموسيقى الغنائية، إذ كتب الكثير من الموسيقيين ملاحم غنائية ساهمت في إغناء مكتبة الموسيقى العربية في ألحانهم المبتكرة ومحاولاتهم في تجديد اللحن عبر إضافات الصور اللحنية الجديدة؛ مما أخرج اللحن العربي من حالة التطريب الذي يعتمد على إيقاعات ثابتة تقليدية نمطية؛ إلى تطريب تأملي مبتكر نقل المستمع من فضاء إلى آخر».
ومن أكثر الإشكالات في عدم وضوح الموسيقى العربية برأي الناقد يوسف الجادر هو المنهج المتبع لتعليمها وتدريسها، فقد تكاد تختفي المناهج المحددة لتعليم الموسيقى العربية من أغلب المعاهد والمدارس في العالم العربي، وهذا يعكس مدى قلة الإنتاج في الموسيقى الصرفة، بينما نجد الكثير من المناهج والدروس المنوطة لطلاب الغناء الشرقي. لكن بدأت تتضح ملامح الموسيقى العربية؛ حين بدأ عدد من المؤرخين والباحثين الموسيقيين كتابة تاريخ الموسيقى العربية ومن أهمهم كتاب (السبعة الكبار) لفيكتور سحاب».
المايسترو (نزيه أسعد) له رأي آخر إذ يقول: «صحيح أن الموسيقى العربية استوردت قوالبها من الموسيقى الغربية وسواها من موسيقى الشعوب مثل (السماعي واللونغا والبشارف) لكن هناك من اشتغل على تطوير هذه القوالب مثل (آل الدرويش) و(جميل عويس) في حلب أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، فـ(جميل عويس) قدّم العديد من مقطوعات الموسيقى الآلية؛ ومقطوعاته حتى الآن ليست معروفة بسبب عدم الالتفات إليها، وعدم خبرة الموسيقيين الذين يعملون على مؤلفات (عويس) بالطريقة نفسها التي كان يعمل عليها هذا الفنان الحلبي العريق».
(كميل شامبير) أيضاً قَدِم من حلب ليذهب إلى مصر؛ وتأثر بالأوبرا المصرية، وحاول التأسيس لمشروع أوبرا عربية لإظهار بطولة الموسيقى، يتابع مدير فرقة الأوركسترا الشرقية ويضيف: «لكن كان سبعون بالمائة من هذه الأعمال يسيطر عليها الغناء من ذواقة الآهات في آخر كل مقطع يبدأ بـ(يا ليل) وينتهي بـ( يا ليل يا عين)»!
أين الأغاني
(المايسترو أسعد) الذي خاض تجربة في العام الماضي على مسرح دار الأوبرا السورية؛ بتقديمه وفرقته أمسية موسيقية عربية من تأليف مواطنه الموسيقي سعيد يوسف؛ سأله الجمهور في نهاية الأمسية الموسيقية: (ولكن أين الأغاني)؟ تخيّل الجمهور لم يتقبل هذا النوع من الأداء، يعقب أسعد مضيفاً: «مع أن فرقتي استعرضت عبر حفلها الذي استمر خمسا وخمسين دقيقة معظم المقامات العربية؛ إلا أن الجمهور ظل ينتظر منا أن نغني له!».
مفارقة يمكن ردها إلى الظروف التي رافقت ظهور حلقات الاستماع عند العرب والتي اشتهرت بأجواء القصف واللهو والمجون؛ بالمقابل يظهر التاريخ المعاصر العديد من التجارب التي حاولت الاشتغال على قوالب موسيقية أصلية؛ فكان منهم (عمار الشريعي) و(عمر خيرت) في مصر، و(منير وجميل بشير) و(نصير شما) من العراق، و(شربل روحانا) و (الياس الرحباني) من لبنان؛ أما في سورية فقد اشتغل الفنان (نوري اسكندر) على الموسيقى السريانية؛ مقتبساً العديد من المقطوعات من عمق تاريخ الموسيقى السورية القديمة، كذلك ثمة العديد في سورية ممن اشتغلوا على الموسيقى التصويرية من مثل رعد خلف وطاهر مامللي ورضوان نصري، لكن من أسف، يقول المايسترو نزيه أسعد ويضيف: «معظم اشتغالات هؤلاء انحصرت في مجال شارات المسلسلات التلفزيونية ولم تُقَدَّمْ أعمالهم الرائعة باستقلال عن شركات الإنتاج التلفزيوني، كونهم لم يجدوا من يمول مشاريعهم لتكون بالفعل نقطةً لانطلاق موسيقى عربية مجردة».
ليست هناك عبر التاريخ البشري جماعة أو شعب أو أمة مهما صغرت أو كبرت لا توجد لديها موسيقى، ونفي وجود الموسيقى لدى العرب يعني نفي وجودهم، يقول الناقد (نذير جعفر) ويضيف: «الموسيقى في النهاية ظاهرة اجتماعية إبداعية جمالية؛ عرفها العرب في الجاهلية وفي العصور اللاحقة كافة، لا بل أبدعوا فيها على مستوى الآلات والتأليف والألحان، وأثّروا وتأثروا بالموسيقى الإغريقية، والفارسية، اللتين تأثرتا من قبل بالموسيقى الفينيقية والآرامية والفرعونية».
هذه التأثيرات الموسيقية المتبادلة كما يوردها الناقد (جعفر) جعلت من الموسيقى: «لغة إنسانية فوق الانتماءات الإثنية والعرقية والقومية. وإذا كان بعض الغربيين يرون أن الموسيقى العربية مرتجلة ومنقوصة وليس لها قواعد أو دلالات اجتماعية؛ فهذا يعود إلى جهلهم بهذه الموسيقى وتاريخها وآلاتها ومقاماتها. يكفي فقط أن نتذكر هنا مستشرقاً مثل (هنري فارمر) يقر بالتأثر الكبير للموسيقى الغربية بالموسيقى العربية؛ ويذكر في كتابه الشهير (مصادر الموسيقى العربية) مئات الرسائل والكتب والأعلام في الموسيقى العربية؛ بدءاً من (كتاب النغم) الذي يُعَدُّ أول رسالة عربية في علم الموسيقى من القرن الثاني الهجري، و(كتاب الإيقاع) للفراهيدي؛ مروراً برسالتَي الكندي في (ترتيب النغم والإيقاع) و(كتاب الموسيقى الكبير) للفارابي وانتهاء بـ(كتاب النغم والإيقاع) لإسحاق الموصلي.
سامر محمد اسماعيل
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال