إعادة نشر «في الأدب الصهيوني» لغسان كنفاني تظهر أن الأديب الشهيد لم يكن روائياً وصحافياً ومناضلاً فحسب بل باحث التزم قواعد البحث العلمي كما قال فلم يأخذ من مصدر وحيد ولم يجعله كونه طرفاً في الصراع يفقد موضوعيته فالكتاب «في الأدب الصهيوني» نموذج للبحث الرصين والوثيقة النقدية التي في شمولها وتعدد مراجعها تكاد تكون مرجعاً في بابها.
في مقدمته يقول كنفاني إن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية ومهّدت لها والكتاب الذي يعتمد كما ذكرت المقدمة مصادر غير يهودية انما منخرطة في المشروع اليهودي وكتابات عبرية وغير عبرية، انما هو من هذه الناحية تاريخ للأدب الصهيوني يتوقف مليا عند أهم آثاره.
في أول فصوله يجد أن معركة الأدب الصهيوني الأولى كانت في نطاق اللغة فالعبرية كانت حتى ذلك الحين لغة دينية، لغة الشعر الديني والأناشيد الدينية فيهودا بن هليفي اليهودي في العهد العربي في الأندلس كتب دفاعه عن اليهودية «الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل بالعربية فيما كتب بالعبرية اشعاره الدينية. كان اخراج هذه اللغة من مجالها الضيق وتحويلها إلى لغة قومية، الهدف الأول للصهيونية، كان ينبغي تحويل اليهودي إلى عبري تمهيداً لتحويله إلى إسرائيلي.
نشأت الصهيونية الأدبية في القرن الخامس عشر الذي تمتع فيه اليهود بفترة من التسامح في القسطنطينية وبولندا وهولندا وألمانيا.
كان الأدب الإنكليزي لا يزال يقدم النموذج الشيلوكي لكن موقف هذا الأدب من اليهودي تغير في القرن التاسع عشر مع بروز مبادئ حقوق الإنسان. كتب دزرائيلي الذي صار فيما بعد رئيساً لوزراء إنكلترا روايته «دافيد الروى» هذه الرواية تفترق عن الشخصية الرومانطيقية لليهودي وتقدم شخصية ترفض الاندماج. ينظر دزرائيلي للتفوق اليهودي انطلاقا من نظرية عرقية «كل شيء عرق» وفي العام 1876 كتب جورج اليوت «دانييل دير وندا» التي ارست البطل الصهيوني الذي يتجه إلى فلسطين ويتكلم عن دولة يهودية ولا يقبل بديلاً منها فمردخاي بطل الرواية يريد «تتويج التفوق اليهودي بدولة قومية».
ينتقل كنفاني إلى أسطورة اليهودي التائه. الأسطورة التي تروي ان يهودياً دفع المسيح وهو في طريقه إلى الصلب قائلاً له «امضي، لا تتلكأ» فقال له المسيح أنا امضي أما أنت فستنتظر إلى أن أعود» وهكذا فإن هذا اليهودي حي منذ ذلك الحين في انتظار عودة المسيح. اسطورة لا تمنع ان الكثيرين يصدقونها ويزعمون انهم التقوا بهذه الشخصية. تبدلت شخصية اليهودي التائه من شخصية مرذولة إلى شخصية صهيونية فهي الآن تمثل الشتات اليهودي والحلم بالعودة إلى فلسطين، كما أن هذه الشخصية ستصبح رمزاً للتفوق المعرفي والأخلاقي، وستكون اساساً لأوبرا اليهودية التي تحمل على العنصرية ضد اليهود.
يستمر الأدب الصهيوني في خدمة الصهيونية السياسية ودعمها بكل الأسلحة بما في ذلك التزوير التاريخي والمبالغة والاستخدام الانتهازي. يكتب تيودور هرتزل رائد الصهيونية رواية «الأرض القديمة الجديدة» التي كانت آخر عهده بالأدب، واعترف هو بأن هدفها كان دعوياً، لقد تبلورت أسطورة التفوق اليهودي التي تتجاوز الفخار الذاتي إلى احتقار الشعوب الأخرى. فأساس الصهيونية هو اعتبار الدين اليهودي أصلاً سلالياً ورابطة قومية، هذه الدعوى التي لا تقوم على أساس بشّر بها الأدب الصهيوني الذي لم يعد في إمكاننا فصله عن التاريخ حتى ان رواية كأكسودس تماهي كتاباً تاريخياً هو «العرب واليهود» والرواية والكتاب التاريخي يؤكدان ان لليهود اسبقية بشرية وأن تفوقهم على العرب يعود إلى أساس عرقي.
رواية أكسودس التي كتبها ليون اوريس والتي تعتبر رواية تاريخية هي كما قال عنها ناقد صهيوني «لقد وضع أوريس الجنس والنجاح وجيمس بوند في الصهيونية» من هنا نفهم «العتمة التاريخية» لاكسودس التي فتنت ولا تزال، رواية وفيلما لليهود في العالم كله.
من هذه الرواية يمكننا ان نجد الخط البياني للرواية الصهيونية:
1ـ البطل قادم من أوروبا للنجاة من اضطهاد.
2ـ يقع في غرامك شخص غير يهودي لكنه لن يكون عربيا.
3ـ العرب يظهرون بلا قضية ومدفوعون من قوى اجنبية.
4ـ تركيز فجائعي على تاريخ الاضطهاد اليهودي.
5ـ اعتبار الدين والعرق دافعاً واحداً.
كلما كان الكاتب الصهيوني بعيداً عن الأحداث زاد تزويره وكلما كان أقرب إليها اقترب من الموضوعية لكن عقدة التفوق اليهودي واحدة في شتى آثار الأدب الصهيوني وإذا قسنا هذا الشعور على الموقف من الشعوب الأخرى تبين لنا انه موقف عرقي عنصري. إنه النازية مقلوبة أما الفلسطينيون فلم يربطهم بحسب هذا الأدب شيء بأرضهم وإلا لما كانوا هربوا منها. العرب هكذا «خبراء في البناء فوق الحضارات الأخرى» كما يقول آرثر كوستلر أما خبرة العرب فهم الذين يؤمنون بالتفوق اليهودي ويؤمنون بالتالي بأن اليهود موجودون لإنقاذهم وليس تصديهم أي العرب لليهود سوى وليد دونية تجاههم حسد قاتل.
سنة 1966 منحت جائزة نوبل لكاتب بالعبرية هو شموئيل عجنون والكاتب الصهيوني لا يملك أفقا عالمياً الأمر الذي يدعو غسان كنفاني إلى اعتبار منحه نوبل «وثيقة بلفور أدبية» فأدبه لا ينفصل عن الدعاوات الصهيونية وهو على حد كنفاني «مجرد دعوة للهجرة من أوروبا الشرقية إلى إسرائيل».
42 سنة على اغتيال غسان كنفاني، إعادة طبع هذا الكتاب تكرمه مثقفاً كبيراً وباحثاً مرموقاً.
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال