فجر ليبيا اعتبرت أن الجدار العازل يعد بمثابة الاعتداء على حرمة الأراضي الليبية، وأنه يتم دون التنسيق مع الجهات الليبية في نبرة تقترب من التهديد.
تمتدّ الحدود البرية التونسية مع ليبيا على أكثر من 500 كلم عجزت تونس عن إحكام مراقبتها منذ القديم بسبب امتدادها عبر الصحراء والكثبان الرملية والقفار. فلقد كانت هذه الحدود الممتدة معابر تهريب ظلت باستمرار مسرحا لعمليات كرّ وفرّ بين المهرّبين وبين أجهزة الأمن والجيش. نظام زين العابدين بن علي رغم سطوته الأمنية كان، دائما، عاجزا عن القضاء على التهريب.
وفي ظلّ ما شهدته تونس وليبيا من متغيرات لا تتشابه إلا في عنوان الثورة الأول بينما تقاطعت المآلات، صارت الحدود الليبية تؤرق تونس باعتبارها مصدرا لخطر داهم يهدد أمنها واقتصادها، فمنها تُهرّب البضائع ويعبر الإرهابيون من تونس وإليها، ويمر السلاح الذي يهدد أمنها. ورغم أن التونسيين جميعا، قد أيقنوا منذ مدّة بأنّ التهريب والإرهاب شيء واحد، فإنّ التعاطي مع هذا اليقين قد تأخّر كثيرا. حيث اكتفت السلطات التونسية بمعالجة هذه الظاهرة أمنيا ولم تصل بعد إلى المعالجة الاستراتيجية.
وبمناسبة زيارة رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي إلى فرنسا في مارس الماضي، أعلنت تونس، لأول مرّة، عن نيتها تشييد جدار عازل على حدودها مع ليبيا كحل استراتيجي للتوقّي من الإرهاب ولتحرير الاقتصاد التونسي من مخالب التهريب، التي تسبيه وتطبق عليه. وكان الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند قد عبّر، حينها، عن دعمه للمشروع وعن استعداد بلده لتمويله.
بعيْد هذه الزيارة نسي المشروع بسبب غرق تونس في دمائها بعد اعتداءين إرهابيين على شريان الاقتصاد التونسي ألا وهو السياحة. فتمّ ضرب وجهين منها؛ وجه السياحة الثقافية من خلال الاعتداء على متحف باردو في مارس الماضي، ووجه السياحة الشاطئية عبر تنفيذ عملية في مدينة سوسة نهاية شهر جوان الماضي.
وفي الوقت الذي شرعت فيه السلطات التونسية في بناء جدار عازل على الحدود مع ليبيا يمتد على مسافة 220 كلم، قدرت الجهات العسكرية التونسية أنها تمثّل مركز عمليات التهريب والإرهاب، في هذا الوقت نفسه Hعلن المبعوث الأممي إلى ليبيا برناردينو ليون توصل الفصائل الليبية إلى الإمضاء بالأحرف الأولى على اتفاق سينهي الأزمة الليبية، ويمكّن من تشكيل حكومة وحدة وطنية تعيد ليبيا إلى الليبيين، وتطرد منها الإرهاب.
لكن اتفاق الصخيرات في المغرب المعلن مؤخرا بين الفصائل الليبية المتنازعة ظلّ أعرج، إذ أنه لا يبدو كما تسوّق الجهات الراعية له. فلم يجمع كل الليبيين بل وُقّع في غياب نواب حكومة طرابلس غير الشرعية ذات الخلفية الإخوانية والمدعومة من ميليشيات فجر ليبيا المسلحة التي تعتبر هذا الاتفاق مؤامرة.
إن مستقبل تونس ومستقبل علاقتها مع ليبيا مرتبط بهذا الاتفاق. وعين تونس على فجر ليبيا ومواقفها. ولا بد من التذكير، في هذا الصدد، بأن حركة النهضة دفعت السياسة الخارجية التونسية إلى نفق دبلوماسي أخرجها من كل المشاورات حول الشأن الليبي سواء بين الفرقاء الليبيين تحت إشراف الأمم المتحدة في المغرب والجزائر، أو بين دول جوار ليبيا لاسيما الجزائر وإيطاليا ومصر التي تعقد اجتماعات دورية حول ليبيا تغيب عنها تونس.
يتمثل هذا النفق في مخالفة الأعراف الدولية والاعتراف بحكومتين لدولة واحدة؛ واحدة شرعيّة منتخبة في طبرق، والثانية في طرابلس غير شرعية وذات خلفية إخوانية.
وبسبب هذا التعاطي الدبلوماسي الخاطئ مع دولة جارة ذات تأثير مباشر على تونس، خسرت تونس مصداقيتها الإقليمية من خلال تغييبها عن الشأن الليبي. وخسرت السلطات التونسية، لاسيما رئاسة الجمهورية التي تضع السياسات الخارجية ووزارة الخارجية التي تنفذها، مصداقيتها الوطنية. فبعد عملية اختطاف الدبلوماسيين التونسيين من القنصلية العامة في طرابلس في مايو الماضي، وجدت السلطات التونسية نفسها تتعاطى مع الميليشيات وتخضع لطلباتها، فتضطرّ لتسليم أحد الموقوفين عندها والمفتش عنه دوليا إلى طالبيه وهي فرقة من ميليشيا فجر ليبيا يعدّ الموقوف قائدها.
لم تتوقف الخسارة الدبلوماسية هنا بل وجدت السلطات التونسية نفسها في موقف ضعيف وهي تعلن عن إغلاق قنصليتها في طرابلس بعيد فتحها بفترة قصيرة. ولكن الموقف الأسوأ كان دعوة وزير الخارجية التونسي الطيب البكوش التونسيين المقيمين في ليبيا إلى مغادرتها فورا. ولكن دعوته لم يحفل بها الإعلام، ولم يصغ إليها التونسيون في ليبيا، ولم تتابعها الحكومة بل نسيتها تماما وكأنها لم تكن.
كان شعار مصلحة تونس هو مبرر اعتراف تونس بحكومة طرابلس باعتبار أن ميليشيا فجر ليبيا تسيطر على المناطق الليبية على الحدود مع تونس حيث تتكثف حركة العابرين وحركة البضائع والمبادلات. ولكن لم تغنم تونس شيئا من الاعتراف بحكومة طرابلس غير الخضوع لميليشيا فجر ليبيا التي تمارس الخطف للدبلوماسيين والمواطنين التونسيين للضغط على السلطات التونسية في كل مرّة من أجل إطلاق سراح موقوف أو تسليمه. وكانت تنجح في مسعاها باستمرار.
ولا بد من التذكير أيضا بأن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي كان قد صرّح منذ فترة مدافعا عن فجر ليبيا قائلا بأنّها هي التي تحمي تونس من داعش. وهو تصريح غريب يفتقر إلى الرصانة، فالدول الحرّة تحمي نفسها ولا تحميها ميليشيات أجنبية تحمل أجندات معادية. والغريب أنه عندما أرادت تونس أن تحمي نفسها من إرهاب داعش ومن التهريب غضبت فجر ليبيا واعتبرت أنّ الجدار العازل يعدّ اعتداء على حرمة الأراضي الليبية وأنه يتم دون التنسيق مع الجهات الليبية. في الأثناء تواصل السلطات التونسية بناء الجدار العازل بحماس رغم الشرر المتطاير من فجر ليبيا. كما تواصل حركة النهضة مناوراتها منتظرة مكافأتها على خندق فجر ليبيا الذي ورّطت فيه تونس بزيادة حصّتها من الوزارات في التعديل الوزاري المرتقب في الخريف القادم.
مصطفى القلعي/alarab.co.uk
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال