كانت مصر تستعد لدخول الألفية الثالثة عندما فتحت مجلة الهلال المصرية ملفا بعنوان: ماذا حدث للمصريين؟ فدعت كتّابها إلى الإجابة عن هذا السؤال، كل واحد من الزاوية التي يريدها. فلبى دعوتها الكثير من الكُتاب الذين التقوا في التنقيب والبحث عن مناحى التطور في المجتمع المصري خلال نصف قرن من الزمن من 1945 إلى 1995.
وقد ساهم في هذا الملف الكاتب والأستاذ الجامعي جلال أحمد أمين، الذي نشر مساهمته بالعنوان ذاته.
وقد أبديت تحفظى على عنوان الملف لبعض الزملاء المصريين، وذلك لأنه يوحي بأن المصريين لا يد لهم فيما حدث لهم. وأن ما جرى لهم تم بفعل فاعل لا يمت بصلة لمجتمعهم! ورغم هذا التحفظ إلا أنني أجد نفسي منجذبا إليه، فاستعرته للسؤال عمّ أصاب الجزائريين؟ وحتى لا أُتهم بالغرور والإدعاء أنني قادر على دراسة جوانب تطور المجتمع الجزائري، خاصة في هذه العجالة، أعلن الآن أنني أروم إظهار بعض الجوانب في سلوك الجزائريين الذي تغلغل في النسيج الاجتماعي تدريجيا، وأدغم في حياتنا اليومية لنسلّم به ويصبح طبيعيا.
ولو سمح لي القارئ الكريم أن أسعى إلى ما أروم إليه، متكئا على الثقافة الشفهية أقول: حدثني أحد الأصدقاء الثقاة أن الجيش الاستعماري طرد أسرته من مزرعتها، واقتيد كبيرها إلى المعتقل بعد أن اكتشف أنها تحولت إلى مركز لجيش التحرير الوطني. ولم يكن في يد أسرته من حيلة سوى البحث عن سكن بالمدينة. فاختار عمه بيتا غير ملتصق بالجيران، ويقع في زقاق مسدود لا يمر عليه غريب، مراعاة لحرمة ساكنيه. وقد دفع مبلغا كبيرا لإيجاره لمدة ثلاث سنوات كاملة ودفعة واحدة. وكان هذا المبلغ يسمح له بشراء سكن في ذلك الوقت. لكنه رفض، بعناد، هذه الفكرة خوفا من أن تستقر أسرته في المدينة، فتستولى على أبنائه اليافعين وإخوته وتجرهم إلى الانحراف. هكذا كان أجدادنا وأباؤنا يفكرون ويتصرفون.
فإسكان أسرتهم في طابق ”فيلا” يعلو فوق حانةً أو مقهى أو متجر يعد عيبا ما بعده عيب في ذلك الزمان.
فإسكان أسرتهم في طابق ”فيلا” يعلو فوق حانةً أو مقهى أو متجر يعد عيبا ما بعده عيب في ذلك الزمان.
ويستطرد صديقى قوله متسائلا: لكن ماذا نلاحظ اليوم؟ أحياء سكنية في أسواق شعبية! فبعض مالكي الفلل أصبحوا يؤجرون جدرانها الخارجية، وحتى ممراتها الداخلية التي تقطعها عائلاتهم يوميا سواء للدخول أو الخروج منها، لتجار الأواني المنزلية، وبائعي الملابس الداخلية للرجال والنساء. فتسمع هذه العائلات، في بعض الأحيان، مضطرة صياح البائعين أو الزبائن وملاسناتهم التي تجرح بكلماتها النابية!
وحدثني صديق آخر قائلا، إن جَدَّه فسخ خطوبة عَمَّته، لأن خطيبها كان مهاجرا وعبّر له عن نيّته في العيش مع زوجته المستقبلية في فرنسا! والغريب، كما يقول صديقي، أن ابنة حفيدة هذا الجدّ فسخت خطوبتها، لأن خطيبها المهاجر في الخليج أصر على عدم اصطحابها معه للعيش في مهجره، بحجة أنه يشتغل لمدة خمسة وأربعين يوما في عرض البحر، ثم يعود إلى الجزائر لقضاء شهر مع زوجته!
وماذا جرى للجزائريين الذين قيّموا ذلك الشاب المتعلم الخلوق الذي دُفع للترشح في الانتخابات البلدية دفعا. ففاز وتبوّأ منصب رئيس المجلس البلدي. وأعطى المثال عن نظافة اليد والنزاهة واستقامة السلوك. فكان أول من يأتي إلى مقر عمله وآخر من ينصرف بسيارته الشخصية! لقد كان ناخبوه يتغامزون كلما مر أمامهم ويسمونه ”نِيّة الله”، لأنه غبي في اعتقادهم، كونه لم ينهب ولم يستغل نفوذه، وينتفع من منصبه.
ولم يثر أي شخص بشكل غير قانوني. فانتخبوا غيره في الدورة الانتخابية التالية. فكان هذا الأخير الأنموذج في التزوير والرشوة والانتفاع من المنصب بطرق غير مشروعة. فلم ينج من الغمز هو الآخر، وأضحى اسمه على كل لسان يلوكه بالسوء. فماذا يريد الجزائريين بالضبط؟ إنهم غير راضين عن المسؤول النزيه ونظيف اليد وناقمين، في الوقت ذاته، على المزور والمرتشى!
وماذا جرى لبعض وسائل الإعلام الجزائرية حتى تنشغل، حد الهوس، بشخص أشهر إلحاده ليصبح مجرد رقم إضافي في قائمة الملحدين في العالم، ولم ترأف بوضع المسلمين، من جهة أخرى، فأذكت نار الفتنة الطائفية بينهم لتحصد المزيد من أرواحهم؟ فماذا جرى لهذه الوسائل حتى لا تسأل عمّ جرى للجزائريين؟ هل حدث لها ما حدث لهم، فملأت الدنيا صخبا بسبب فتاة شمرت تنورتها. واستنكرت فعلتها بعنف، باسم العفِّة والأخلاق والدين. وبالمقابل تشجع ممارسة التحرش بالمرأة، بصرف النظر عن طول لباسها أو عرضه. لقد احتجت على العقاب الذي يسلطه القانون على من يتحرش بالمرأة وكأن المتحرش يقوم بذلك حماية للأخلاق ودفاعا عن الدين.
نصر الدين لعياضــي
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال