كان المغاربة يتوقعون أن تأتي حكومة الإسلاميين في المغرب، بما لم يأت به الأولون؛ بل إن بعض الأغرار، كانوا يتطلعون إلى ما يشبه عدل عمر بن الخطاب، عند اعتلاء اللحى (الإخوانية) كراسي الحكم.
وسرعان ما أسفر اللغط السياسي المرافق للشهور الأولى، عن صورة لا تكاد تختلف عن المعتاد من الحكومات السالفة، إن لم نقل إن هذه فاقتها في مستوى الخيبات التي صاحبتها:
1- كانت الخيبة الأولى عندما أعلن رئيس الحكومة عن عدم قدرته على مصارعة "العفاريت" و"التماسيح" كما سماها. والسؤال هنا هو: لِمَ لمْ يستقل رئيس الحكومة وقتها، لئلا يحمل أوزار الحكم، بغير شروطه إن كان صادقا؟ وإن كنا نرى نحن أنه فضّل التمسك بالكرسي على حساب "المبادئ" التي كان يزعمها لنفسه ولحزبه. وظهر أخيرا أن الإسلاميين لا يختلفون عن غيرهم إلا في كونهم اجترأوا على توظيف الدين في السياسة. وهو ما لم تفعله أحزاب دنيوية قبلهم، يُحسب لها احترامها للدين على كل حال.
2- وكانت الخيبة الثانية، عندما صار الإسلاميون يرقعون حكومتهم مرة بعد مرة، بمن لا يقاسمهم المنطلقات نفسها؛ مما يجعلهم لا لون لهم في مجال السياسة؛ وإنما هم أسوأ من غيرهم فيها، كما سبق أن أشرنا، بتنازلهم عن خصوصيات كنا نحسبها لهم. في حين كان يمكن أن نتفهم تحالفا بينهم وبين حزب الاستقلال مثلا، الذي هو أقرب إليهم نظريا من غيره من حيث المبادئ والأسس! وعلى العكس من هذا، تأسست بين الحزبين عداوة لا نظير لها، لا شك أنها تثير تساؤلات عديدة لدى المتتبعين من أبناء الشعب!
3- وكانت الخيبة الثالثة هي النزول بالخطاب السياسي الرسمي إلى أدنى مستوى يعرفه منذ الاستقلال. فلقد مرت على المغرب حكومات من جميع الأطياف، ولم ينزل واحد من أعضائها علنا، إلى ما نزل إليه رئيس الحكومة "الإسلامي"، من خطاب لا يليق إلا بمن لا خلاق لهم من أفراد عصابات الشوارع. فأي إسلام هذا الذي هم عليه إسلاميونا؟!.. أم هل جاء هؤلاء إلى سدة الحكم ليضربوا الدين ضربة، لم يتمكن أحد غيرهم من بلوغها؟!.. كما تفعل داعش من جهتها؟!.. فمع من هم إذن: مع الدين، أم مع أعدائه الألداء؟!..
لا داعي إلى أن نذكر الخيبات التفصيلية مع ما سبق أن ذكرنا وفي طياته، اختصارا لكلام لا شك أن كثيرين يعلمونه. غير أن ملاحظاتنا، تلقي بنا إلى أن نتساءل عن حقيقة المرحلة التي نعيشها، وعما سيأتي بعدها، إن لم يتدارك العقلاء الأمر قبل استفحاله. ومن أجل هذا، فإننا نقترح ما يلي:
1- منع استخدام الأحزاب للدين بأي صفة من الصفات، إلا ما يدخل في المشترك العام، ودون تخصيص في الخطاب. هذا لأن جل المغاربة مسلمون، ولا معنى لهذا التخصيص، إن لم نكن نريد أن ندخل في متاهات لا مخرج منها بعد ذلك.
2- مراجعة التدبير السياسي الحزبي برمته في البلاد، لأنه لم يعد يخدم إلا الفساد بجميع فروعه وتشعباته؛ بسبب التصلب الذي أصاب العمل السياسي (قياسا على مرض تصلب العضلات). وأما السياسة بمعناها الأصلي، فإننا نراها قد أهمِلت، وكأنها لا تعني أحدا من المتواجدين في الساحة. ومن أجل تحقيق هذه المراجعة، فإننا نقترح حوارا سياسيا حقيقيا ومسؤولا بين المفكرين السياسيين لدينا، والذين هم من الندرة بما لا يخفى، وبين الفاعلين السياسيين ذوي الخبرة؛ لأن المرحلة القادمة ستكون حاسمة في حياة الدولة، فإما إلى نجاة مع إصلاح، وإما إلى انهيار تام.
3- على الأغلبية المنسحبة من الحياة السياسية (العازفين عن التسيّس الفعلي)، أن لا تكتفي بالمراقبة لما يجري، وكأن الأمر لا يعنيها؛ وهي لا شك ستتحمل تبعاته ونتائجه طوعا أو كرها في مستقبل أيامها. وعليها من أجل هذا، أن تعمل على بلورة خطابها بما تراه مناسبا، ليكون مسموعا لدى الأطراف الفاعلة كلها؛ بل لتكون طرفا من أطراف المعادلة السياسية الوطنية، كما ينبغي أن تكون عليه الحال. وما لم تدخل هذه الأغلبية الصامتة الحلبة، فلا إصلاح ولا فلاح!..
4- على مختلف الأطراف أن يعوا أهمية الالتفاف حول الملكية، تلافيا لتفرقة الصف الوطني، وتجنبا لتعريض البلاد لما لا يمكن احتماله من شق الصف الداخلي، في هذه المرحلة الحرجة. وهذا يعني أن كل من هو خارج عن هذا الإجماع، فإنه يكون متخلفا عن متطلبات المرحلة، مثبطا لعمل الجماعة الوطنية. وعلى مختلف الأفرقاء أن يسعوا إلى إزالة العقبات التي تحول دون وحدة الكلمة من تلقاء أنفسهم، وأن لا ينتظروا تدخلا من جهة أخرى مباينة، إن كانوا أهلا لما يُنتظر منهم.
5- على جميع الأطراف أن يتجنبوا الزج بالمؤسسة الملكية في صراعاتهم، بطريقة أو بأخرى؛ فإن ذلك لا يعني إلا أنهم عاجزون عن تدبير شؤونهم السياسية بما يلزم من حكمة وبعد نظر؛ وبدل ذلك، عليهم أن يخضعوا لشروط "اللعبة السياسية" بحسب ما هو متعارف عليها عالميا؛ لأن التذرع في السياسة، بالخصوصية المحلية، أصبح مبالغا فيه؛ وأصبح يُتخفّى خلفه من المحاسبة التي هي ضرورية لكل عمل ذي صبغة عمومية.
6- علينا جميعا أن نعمل على إفراز نخبة سياسية، تمارس التفكير في الوطن بالدرجة الأولى، من أجل الخروج من الدوائر الضيقة للحزبية والشخصنة،؛ التي أضرت بالعمل السياسي المغربي كثيرا؛ حتى كادت تخرج به إلى ما يشبه المقاولات السياسية. وهذا لا يليق ببلد في إمكانه أن يكون نموذجا متعدد الواجهات، في إقليمه وقارته، إن واتته الظروف.
لا شك أن القارئ قد عرف أننا نتكلم عن مرحلة ما بعد الإسلاميين العقيمة، التي ينبغي أن تعتبر استثناء، أو سباتا سياسيا بالمقارنة إلى سواها، في انتظار الصحو على ما يشرح الصدر ويعيد الأمل. ولا يمكن أن نحقق شيئا مما ذكرنا، إلا إن جعلنا للعمل السياسي ضوابط لا يُسمح لأحد بالإخلال بها؛ حتى لا نبقى في هذا العبث عالقين مدى الدهر... وما عاد المغاربة يقبلون تجاهلهم واستغباءهم إلى هذا الحد!..
ومن أجل تحقيق الفاعلية المطلوبة، لا بد أن نضع الأصبع على موطن الداء، وأن تكون لنا الشجاعة على التصدي لمواطن الخلل من دون اعتبار لشيء، سوى المصلحة العامة، التي لم تعد تقبل تقديم أي اعتبار آخر عليها، بسبب الظروف الإقليمية والدولية الخاصة التي نمر بها. هذا يعني أن ما اعتاده سياسيونا من اعتماد لـما يمكن أن يسمى "المهدئات"، لم يعد مجديا اليوم. فمتى نكون حقيقة في مستوى متطلبات المرحلة؟ ونكون تاريخيا على الموعد؟.. وهل سنكون جميعا في مستوى هذا التحدي؟.. هذا ما ستسفر عنه الشهور المقبلة... نقول "الشهور"، لأن الأمر لم يعد كالسابق فيه متسع للسنوات، التي تُهدر من غير ما حسيب ولا رقيب، إلا الله!..
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال