أربعون عاماً مرّت على الحرب الأهلية وكأنها اليوم. نحن من أكثر دول العالم تحدثاً عن الحرب، ولكن من دون محاسبة.
نحذر من عودتها ليل نهار، ونعمل على إشعالها على مدار الساعة. ننتقل من حافة هاوية، الى حافة أخرى، وبعناية إلهية لا نقع.
حربنا الأهلية استولدت حروباً طائفية ومذهبية ومناطقية، وعائلية وعشائرية، ومعارك بين أبناء الصف الواحد، كانت أكثر مرارة من ظلم ذوي القربى. حروبنا استنفرت دولاً كبرى، واستدعت تدخلات من كل حدب وصوب. قلنا مرة إنها حروب الآخرين على أرضنا، ومرة هي حرب تحرير أو إصلاح او إلغاء أو مساواة أو طائفية، وكانت دائماً حروباً «وطنية» بامتياز.
لم يتحقق أي مشروع إصلاحي من أسباب الحرب أو ذرائعها، لا من عناوين الرابحين ولا من مطالب الخاسرين. الا اذا اعتبرنا الطائف واصلاحاته، التي لم تتحقق، تستأهل حرباً طالت خمسة عشر عاماً، وقتلت أكثر من مئة وخمسين الف شخص، عدا عن مئات آلاف الجرحى وآلاف المفقودين، الذين يبقون وصمة عار على جبين اللبنانيين اليوم وغداً.
أقفلنا جروح الحرب على عفنها، وأحكمنا خياطة الجرح. وأسمينا ذلك مصالحة. وفرخنا جمعيات محلية ودولية لبناء السلم الأهلي وتعزيزه، وأنفقنا مئات ملايين الدولارات، من دون أن تقوم مؤسسة رسمية واحدة لهذه الغاية، باستثناء مجلس الوزراء الذي يبقى نادياً حصرياً لفتوات الطوائف المتصارعة المتقاسمة كعكة السلطة وريوعها.
الأربعون سن النبوة والرشد الحقيقي والحكمة. وواضح مما هو جار حولنا، أن لبنان أفضل من سوريا والعراق أمنياً. ويبقى أحسن حالاً من الأردن، الذي لا يزال وطناً بديلاً مستقبله غامض. أما مقارنة بدول الخليج، فحدث ولا حرج. خلف مظاهر الاستقرار الثري الصامت، هناك غرف من الأسرار تخفي خلافات ومشكلات مجهولة لا أحد يجرؤ على الإدعاء بمعرفتها معرفة كاملة. لا مراكز القوى معلومة، ولا هويات المتصارعين على السلطة محددة. ولا أحد يدرك من هم في الصف الأول أو الثاني أو الأخير. سلطات قائمة على طبقات من الصمت والتعتيم، ما عدا بضعة تقارير تنشر كل عام في صحف غربية، هي أقرب إلى التبصير منها إلى سرد الوقائع. في تلك الدول، لا تَدرج في الأزمات، بل انهيار كامل ومفاجئ، بعد صمت موصول من جيل إلى آخر. أما عندنا فالكل يعرف كل شيء. مفاسدنا معروفة. وشهواتنا مفضوحة. وتبين اليوم أن تعطشنا إلى الدم محدود، أو على الاقل لا يزال محصوراً بين قلة من رؤوس حامية، لا تيار واسعا خلفها. ويتبين اليوم أن أسباب الحرب لا تزال قائمة، لا بل هي أخطر وأكبر وأعقد مما كانت عليه قبل أربعين عاماً، لكن همة غالبية اللبنانيين لاستخدام السلاح فاترة. هو حظ ربما، او لان «حزب الله» متقدم بصورة كبيرة عسكرياً على الآخرين. وهنا للحظ دور كبير أيضاً.
صحيح أن فرص اللجوء إلى السلاح مرتفعة، لكن الصحيح أيضا أننا اجتزنا مخاطر كان من الممكن أن تتحول حرباً مدمرة لو وقعت في بلد آخر، ولو كان بالشكل أكثر مناعة داخلياً. ما نشهده اليوم من انقسام سياسي بين اللبنانيين، ليس أكثر من «جهلة أربعين» سرعان ما يحل محلها وقار الكهولة.
منير الخطيب
0 comments :
Enregistrer un commentaire
التعليق على هذا المقال