Application World Opinions
Application World Opinions
Application World Opinions

مصر - التوافق الوطنى: السهل الممتنع

لا مفر من الاعتراف بأن مصر لن تستطيع أن تكسب ايا من معارك المصير التى تخوضها ما لم تنجح فى تحقيق التوافق الوطنى بين أطيافها.
1- فى الأجواء المخيمة الآن اصبحت هذه البديهة البسيطة بحاجة الى اثبات لدى البعض، فى حين انها غير قابلة للمناقشة لدى البعض الآخر. وفى كل الأحوال فإن القائلين بها يورطون انفسهم فى مغامرة قد تعرضهم لما لا يسرهم. ذلك أن مجرد طرح الفكرة أصبح يعد سباحة ضد التيار، المعبأ والمشحون بخليط من المشاعر السلبية التى باتت ترى فى التوافق الوطنى مؤامرة تخل بالنقاء السياسى الذى ينشدونه.
فى البدء روج البعض لفكرة تقسيم البلد الى معسكرين أحدهما دينى والآخر مدنى. وهو ما اعطى انطباعا مغلوطا بأن الأول مشكوك فى وطنيته وان الثانى مشكوك فى تدينه. وبمضى الوقت ذهب الخطاب التعبوى الى ابعد، حيث اشاعت أبواقه أن فى مصر شعبين أحدهما يختلف عن الآخر ولا مشترك بينهما. الأمر الذى بدا انعطافا باتجاه المفاصلة والافتراق، إلا أن الفجوة اتسعت بعد ذلك وضاقت معها الصدور التى امتلأت بعوامل الرفض والنفور، حتى سمعنا أصواتا باتت تجهر بأن البلد ما عاد يحتمل تعايش الاثنين جنبا الى جنب تحت سقف الوطن الواحد. وسمعت بأذنى من قال على شاشة التليفزيون: اما نحن أو هم، وهى الأرضية التى مهدت الساحة لتقديم كتائب الإبادة التى صمت الآذان ورفضت التفاعل مع فكرة التوافق، حتى اصبح ترديد الكلمة أو التلميح لها بأى صيغة يثير لدى عناصرها حالة من العصبية والهياج، عبرت عنها كتابات ورسومات عديدة مسكونة بالفعل بالغل والكراهية.
لست أدعو الى فتح ملفات الماضى، ولست فى مقام تبرئة طرف أو إدانة طرف آخر، لكن أكثر ما يعنينى فى اللحظة الراهنة هو تحقيق العيش المشترك لتقوية مناعم الوطن وتعزيز حصاناته، لكى يتمكن من التصدى للتحديات التى يواجهها. ذلك اننى أزعم أن الوطن ليس ملكا لطرف دون آخر، وانه اكبر وأبقى من المتصارعين. وتلك بديهية أخرى أرجو ألا نصبح بحاجة إلى اثباتها.
2- الدعوة الى التوافق رددتها بعض الأصوات الاستثنائية المحتدمة فى الآونة الأخيرة إذ خلال العشرة الأيام الاخيرة مثلا ترددت الفكرة فى كتابات عمرو الشوبكى وعمرو حمزاوى واحمد عبدربه وزياد بهاء الدين الذى كان عنوان احدث مقالاته كالتالى: بعد اربع سنوات: لا بديل عن التوافق الوطنى الشروق 27/1). وفى مقابل تلك الكتابات فإن اصوات كتائب الإبادة كانت الأعلى والأكثر ضجيجا فضلا على انها ظلت مهمينة على البث التليفزيونى بوجه اخص.
فى الدفاع عن فكرة التوافق الوطنى والتضامن معها اذكر بعوامل ثلاثة تجعل من ذلك التوافق ضرورة فى الظروف الراهنة وهى:
• الأول أن الثورة التى قامت فى مصر يوم 25 يناير 2011 مازالت تراوح مكانها، بدليل أن أهدافها المعلنة لم يتحقق منها شيء خلال السنوات الاربع الماضية. بل بدا أن النظام القديم الذى انقلبت عليه الثورة اصبح يطل برأسه من جديد ويتأهب لاستعادة مواقعه مرة اخري، ولا سبيل لمواجهة ذلك الزحف إلا باحتشاد القوى والجماهير صاحبة المصلحة فى الثورة، والتى ضحت بأكثر من ألف شهيد لإنجاحها.
• الثانى يتمثل فى تنامى خطر الارهاب فى مصر وفى سيناء بوجه اخص، وهو ما ظهر بوضوح فى الغارة الاخيرة على المواقع الامنية فى العريش. وفى مذبحة كفر القواديس التى وقعت فى منتصف شهر نوفمبر الماضى. وقد قتل فى العمليتين العشرات من جنود القوات المسلحة والشرطة. وازاء ما توفر لبعض المنظمات الارهابية التى قامت بمثل هذه العمليات من تدريب وخبرة وسلاح، فإن ذلك وضع القوات المسلحة فى اختبار، سوف تجتازه بنجاح إذا ما اطمأنت الى وجود جبهة داخلية وراءها متماسكة وآمنة.
• العامل الثالث اقليمى. يتعلق بالمساندة القوية التى تلقتها مصر بعد الثالث من يوليو 2013 من جانب المملكة العربية ودولة الامارات. ذلك أن وفاة العاهل السعودى الملك عبدالله بن عبدالعزيز اعطت انطباعا بأن ثمة متغيرا فى السياسة الخارجية السعودية لن يؤثر على موقف المساندة، ولكنه قد يؤثر بالسلب على حدودها. عبرت عن ذلك تلميحات عدة، كان اكثرها وضوحا مقالة نشرتها جريدة «الحياة اللندنية فى 31/1 للكاتب السعودى جمال خاشفجى احد المقربين من مؤسسة الحكم فى المملكة اذ ابدى فيها بعض التحفظات على الوضع السياسى فى مصر. ودعا المملكة فى عهدها الجديد للعودة الى اتباع سياسة الاحتواء التى اتبعتها فى اوقات سابقة، وليس الاصطفاف الذى ظهر فى فترة حكم العاهل الراحل. كما دعا الى اقامة غرفة عمليات سعودية ــ أمريكية تركية تتولى اطفاء الحرائق ورعاية المصالحة فى المنطقة. وهو اقتراح له دلالته التى يمكن أن تكشف المرحلة المقبلة عن ابعادها.
هذا الكلام الذى يخرج مصر من المعادلة رغم انه يعبر عن وجهة نظر شخصية لا تلزم السلطة السعودية فى شىء، إلا اننا لا نستطيع أن نتجاهل تماما لأنه صادر عن صوت قريب من السلطة، وفى كل الأحوال فإن تسريبه ينبه الى أهمية ملاحظة احتمالات التغيير فى الخرائط الاقليمية. كما يعزز فكرة توجيه مزيد من الاهتمام الى الجبهة الداخلية فى مصر، والتركيز على تماسكها لمواجهة كافة الاحتمالات.
3- تريدون توافقا ومصالحة مع الإرهابيين الذين تلطخت أيديهم بدماء المصريين؟ هذا السؤال هو الاكثر شيوعا فى الفضاء السياسى والاعلامى المصرى. وقد وصفه الدكتور احمد عبدربه فى مقاله الاخير الذى نشرته جريدة الشروق (فى 1/2) بأنه «مغالطة وحيلة لخلط الأوراق»، لأن التوافق المنشود ليس مع هؤلاء يقينا. ذلك أن كل من يثبت ضلوعه فى العمليات الإرهابية ليس طرفا فى الدعوة، ولكن القانون هو الذى يحاسبه انطلاقا من معايير العدالة والتزاما بمبادئ حقوق الإنسان، بالتالى فالكلام ليس عن هؤلاء، ولكنه عن غيرهم الذين أخذوا بالشبهة وتم اقصاؤهم دون أن يقترفوا ذنبا، ومن ثم أصبحوا مرشحين للانحياز لأحد الخيارات الثلاثة:
رفض الديمقراطية وعدم الثقة بها، أو الانخراط فى العمل السرى، أو اللجوء الى العنف. وكلها خيارات سلبية كما رأيت، تزرع بذور شرور لا يعلم مداها إلا الله.
السؤال سالف الذكر هو الأهم عند أهل الموالاة. إلا أن ثمة سؤالا لا يمكن تجاهله يطرحه الطرف الآخر هو: هل يمكن بسهولة تجاهل جراح المرحلة السابقة التى خلفت آلاف القتلى وعشرات الآلاف من المعتقلين؟ ردى على السؤال انه اذا صدقت النوايا وتوفرت الرغبة الحقيقية فى التوافق فليست هناك مشكلة بلا حل، اذ يمكن الاهتداء فى ذلك ــ مثلا ــ بتجربة لجنة الحقيقة والمصالحة التى تشكلت فى جنوب أفريقيا بمقتضى قانون تعزيز الوحدة الوطنية الذى أصدره فى عام 1990 نيلسون مانديلا ابان رئاسته للبلاد قبل ذلك بعام. وقد استرشدت بها سيراليون بعد ذلك. كما استفادت منها المغرب بدرجة أو اخرى لطى صفحة الاحتقان الذى عاشت فى ظله المملكة تحت حكم الملك الحسن الثانى اذ شكلت لأجل ذلك لجنة «الانصاف والمصالحة» (عام 2004)، وليس ذلك هو النموذج الوحيد، لأن للجزائر تجربة اخرى للم الشمل تمثلت فى قانون الوئام المدنى الذى تبناه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقه وتم اصداره عام ١٩٩٩.
ثمة تفاصيل كثيرة يثيرها ملف التوافق يتعلق بخبرة الاشهر الماضية والجراح التى كان لكل طرف نصيب منها، إلا أن اهم ما يعنينى فى الامر هو الاتفاق على فكرة استدعاء الملف وفتحه بهدف تطهير الجراح لكى يستعيد الصف الوطنى عافيته ولياقته متحفظا من ركام المرارات والخصومات.
4- ليس المراد بالتوافق أو الوئام مجرد تبديد المخاوف أو تطهير الجراح، لأن ما سبق يستهدف تمهيد الطريق الى المستقبل. وهو سؤال ألاحظ انه يتردد كثيرا على ألسنة من ألتقيهم من الباحثين والدبلوماسيين الاجانب بوجه أخص الذين تشغلهم قضية مستقبل الاسلام السياسى. اذ عادة ما اقول إن مصير الناشطين فى ذلك المجال أو مصير مختلف القوى السياسية مرهون بمستقبل الديمقراطية فى مصر. فمكانهم محفوظ فى ظل الديمقراطية، وجميعهم معرضون للقمع والحصار اذا ما تم تغييبها أو تزويرها، ومن المفارقات فى هذا الصدد أن ثمة خطابا فى مصر أراح نفسه من السؤال، وقرر أن الاسلام السياسى انتهى امره وطويت صفحته، ولم يعد له مكان لا فى خرائط الحاضر أو المستقبل. وهى رؤية ساذجة ومبسطة، ليس فقط لأن الافكار لا تلغى بمرسوم أو حكم محكمة لكنها قد تموت بفعل الوقت وبمضى الأزمنة.
اننا إذا نحينا جانبا الخطاب التعبوى والهرج الإعلامى والكيد السياسى، وحاولنا أن نتعامل مع ملف الإسلام السياسى بما يستحقه من جدية فينبغى أن نبدأ بتحرير المصطلح وتفكيكه حتى ننطلق مما اتصوره فهما صحيحا له أعرضه على النحو التالى:
* إذ رغم أن المصطلح حديث لم نسمع به قبل نجاح الثورة الإسلامية فى ايران (عام 1979) إلا انه يصف حالة أو حراكا خرج من عباءة المجتمع المسلم، بمعنى انه ليس فكرة طارئة ولا مستوردة، وانما هو نبت طبيعى افرزته تربة الواقع، وبالتالى فهو باق ما بقيت التربة وان اختلفت تجلياته من بلد الى آخر ومن «طينة» الى اخرى.
• ليس صحيحا أن الاسلام السياسى هو الممثل الشرعى الوحيد للمسلمين، ولا دعاته افضل المسلمين الذين تتعدد مذاهبهم ومشاربهم كما تختلف مواقفهم. الى جانب ذلك فالإسلام السياسى ذاته ليس شيئا واحدا، وانما تتعدد منابره وكياناته، حتى إن مواقف بعض فئاته قد تتناقض مع مواقف البعض الآخر، وهو ما يتجلى بصورة أوضح فى مناهج التغيير وما اذا كان يتم بالعنف أو من خلال الأساليب السلمية والآلية الديمقراطية.
• إن الإخوان ليسوا هم الإسلام، السياسي، ولكنهم فصيل كبير فى محيطه، والتضامن معهم لا يعنى بالضرورة مشروع الإخوان أصبح يمثل مرجعية لغيرهم، ولكنه بالكاد يعبر عن تحالف سياسى فى ظرف تاريخى معين لا يلغى التمايزات والاختلافات حول المشروع والخلط فى الحالة المصرية بين التحالف السياسى والمرجعية الفكرية تسبب فى ظلم حزبى الوسط والبناء والتنمية، ولكل منهما مشروعه المميز الذى هو فى بعض جوانبه اكثر تقدما من مشروع الإخوان.
بذات القدر فإننى أزعم أن الإخوان انفسهم لم يعودوا شيئا واحدا، فليس صحيحا أن حلفاءهم فى العالم الاسلامى يخضعون لتوجيه القيادة فى القاهرة (تونس والجزائر والمغرب والسودان وتركيا وماليزيا واندونيسيا وباكستان نموذج لذلك). بل إن الجماعة المصرية ذاتها ما عادت شيئا واحدا، فالاختلاف بين الاجيال قائم، ثم إن هناك تباينات بين اخوان الخارج واخوان السجون وبين الاثنين وبين الذين لايزالون خارج السجون ويعيشون فى مصر.
إدراك هذه التمايزات مهم فى الحديث عن التوافق، أما الاختزال والتبسيط الذى يضع الاسلام السياسى فى سلة الاخوان ويضع كل الاخوان فى سلة واحدة، ثم شطب الجميع ونفيهم من الحياة السياسية فهو مغامرة لا تخلو من تغليظ وحماقة. ثم انه دعوة للجميع لكى يلتحقوا بداعش واخواتها بعد أن تصبح خيارهم المتاح. وقبل كل ذلك وبعده فهو ليس من الديمقراطية فى شىء وعلينا أن نحدد قبل أن نمضى فى أى اتجاه أن نحدد ما اذا كنا مع الديمقراطية ام ضدها.
فهمي هويدي 

0 comments :

Enregistrer un commentaire

التعليق على هذا المقال